السلطان عبد الحميد الثاني

السلطان عبد الحميد الثاني… الرجل الّذي كافح لإنقاذ الوحدة الإسلامية (2)

نواصل في هذا المقال التحدّث عن تاريخ السلطان عبد الحميد الثاني من النّقطة الّتي توقّفنا عندها في المقال السابق.

احصل على ثانوية الأشباح

قد ترغب بقراءة: ما الّذي يحرّك الغرب نحو الشّرق الأوسط… الدّين أم النّفط؟

السلطان عبد الحميد الثاني ويهود الدونمة

يهود الدونمة هم يهود الأندلس الّذين لجؤوا إلى الدّولة العثمانية متظاهرين باعتناق دين الإسلام. وقد كان مقرّ إقامتهم الرّئيسي هو مدينة سالونيك.

مؤسّس هذه الجماعة هو يهودي يُدعى شبتاي زيفي. وقد كان يدّعي أنّه المسيح المنتظر في القرن السابع عشر. حيث كانت مثل هذه الفكرة شائعة بين اليهود، وقد كانوا بانتظار عودة المسيح ليقودهم ويحكم من أرض فلسطين وتكون القدس عاصمة للدّولة اليهودية.

ذاع صيت شبتاي وهو يدعو لنفسه، وقد لقيت دعوته استقبالا من مختلف أنحاء العالم. لكن حينما شعر العثمانيون بخطره قاموا بسجنه ثم محاكمته، ليعلن إسلامه بعد ذلك ويطلب السّماح له بالدّعوة إلى الإسلام. لكنّه لم يكن صادقا في ذلك ما أدّى إلى سجنه ثانية ثمّ نفيه إلى أن مات في منفاه.

لكن جماعة شبتاي واصلت مسيرته، وقد ترك لها خلفه عقيدة نظّمها في 18 مادة ليسيروا عليها. وقد قال في المادة 16 منها: “يجب أن تطبق عادات الأتراك لصرف أنظارهم عنكم، ويجب ألّا يظهر أحد من الأتباع تضايقه من صيام رمضان ومن الأضحية، ولمن ينفذ كلّ شيء يجب أن ينفّذه أمام الملأ”.

يبدو أنّ شبتاي كان أوّل يهودي بشّر بعودة بني إسرائيل إلى فلسطين. وقد ساهمت جماعته بشكل كبير في هدم القيم الإسلامية في المجتمع العثماني. كما كان لهم تأثير كبير على جمعية الاتّحاد والترقّي، ودور فعّال في عزل السّلطان عبد الحميد الثاني.

كان السلطان عبد الحميد الثاني على علم بمدى خطورة يهود الدونمة، وقد حرص على بقائهم في سالونيك لكي يقلّل من خطرهم.

وقد كتب أحد الجنرالات وهو جواد رفعت عن هذا قائلا “إنّ الشخص الوحيد في تاريخ الترك جميعه، الّذي عرف حقيقة الصّهيونية والشبتائية وأضرارهما على التّرك والإسلام وخطرهما تماما، وكافح معهما مدّة طويلة بصورة جدّية لتحديد شرورهم، هو السّلطان التركي العظيم. كافح هذه المنظّمات الخطيرة لمدة ثلاث وثلاثين سنة بذكاء وعزم وإرادة مدهشة جدّا كالأبطال”.

السلطان عبد الحميد الثاني وهرتزل

لقد ذكرنا في المقال الأوّل بأنّ الدّولة العثمانية كانت مثقلة بالدّيون، وقد كانت تلك الدّيون بمثابة ورقة ضغط عليها من قبل الدّول الغربية. وهو تماما ما استخدمه هرتزل لنيل مراده.

فبعد أن حصل على تأييد أوروبي لمسألة تكوين وطن لليهود على أرض فلسطين، بدأ هرتزل بمحاولة إقناع السلطان عبد الحميد الثاني بالسماح بهجرة اليهود إليها.

كان ممّا عرضه هرتزل على السّلطان بأن قال “إن نحن حصلنا على فلسطين، سندفع لتركيا كثيرا أو سنقدم عطايا كثيرة لمن يتوسط لنا. ومقابل هذا نحن مستعدّون أن نسوي أوضاع تركيا المالية”.

وممّا ردّ به السلطان عبد الحميد الثاني بأن قال لأحد أصدقاء هرتزل “انصح صديقك هرتزل ألّا يتخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع. لأنّني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدّسة، لأنّها ليست ملكي بل ملك شعبي. وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم. فليحتفظ اليهود بملايينهم. إذا مزقت دولتي، من الممكن الحصول على فلسطين دون مقابل. ولكن إذا لزم الأمر فليبدأ التّمزيق أوّلا في جثّتنا. ولكن لا أوافق على تشريح جثّتي وأنا على قيد الحياة”.

طبعا ثقة هرتزل لم تأت من فراغ. فقد كان اليهود يملكون الأموال ويسيطرون على العلاقات التّجارية الدّولية. وقد استطاع هرتزل أن يلتقي السّلطان بعد محاولات عديدة ليقنعه ثانية بأنّ البنوك اليهودية على استعداد لسدّ ديون الدّولة العثمانية مقابل الاستيطان في أرض فلسطين.

لكنّ رفض السّلطان المتكرّر جعل هرتزل ومن يدعمون الصّهيونية يدركون أنّ زوال السّلطان عبد الحميد الثّاني من على رأس الدّولة العثمانية هو الحلّ الوحيد لبلوغ مبتغاهم. وهو ما عملوا عليه على عدّة أصعدة.

وممّا قاله هرتزل بعد لقائه بالسلطان “أقرّ على ضوء حديثي مع السلطان عبد الحميد الثاني أنّه لا يمكن الاستفادة من تركيا إلّا إذا تغيّرت حالتها السّياسية أو عن طريق الزجّ بها في في حروب تهزم فيها، أو عن طريق الزجّ بها في مشكلات دولية، أو بالطّريقتين معا في آن واحد”.

جمعية الاتّحاد والترقّي

ذكرنا من قبل بأنّ الشّباب العثماني المثقّف كان متأثّرا بالأفكار الغربية. ومن بين تلك الأفكار، كانت تروقه أفكار الثّورة الفرنسية والحركة القومية البريطانية.

وتقليدا لتلك الثّورات، قرّر مجموعة من الشّباب تأسيس جمعية سمّوها “اتّفاق الحمية”. حيث حدّدوا لها هدفا رئيسيا وهو تعريف الشّعب بحقوقه السّياسية والحصول عليها.

نمت فكرة هذه الجمعية وتشكّلت بصور عدّة.

فمن ناحية، كان الأمير المصري مصطفى باشا في فرنسا في ذلك الوقت، وقد أعلن إعجابه بالتيّار الّذي ينادي بالدّستور وقدّم نفسه على أنّه ممثّل حزب تركيا الفتاة. كان الأمير طامعا في الحصول على مصر. وقد راق هذا الاسم المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت.

التحق إعلاميون عثمانيون من بين مؤسّسي جمعية اتفاق الحمية بالأمير وشكّلوا معا جمعية العثمانيين الجدد. وقد قدّموا صورة مفصّلة لإقامة الدّولة الدّستورية للصّدر الأعظم مدحت باشا، والّذي كان بدوره معجبا بتلك الفكرة.

لم يقبل السّلطان بذلك رغم الضّغط، وقد استمرّ في محاربة الفكرة إلى أن نفى مدحت باشا وعطّل الدّستور كما بيّنا في المقال السّابق.

وقد قامت على إثر ذلك مؤامرتان لخلع السّلطان، إحداهما بقيادة أحد أعضاء الجمعية. والأخرى بقيادة جمعية ماسونية. وقد كانت كلاهما تتلقّى الدّعم من قبل إنجلترا وفرنسا.

وبالتّزامن مع ذلك، تأسّست خليّة طلّابية أعضاؤها من طلّاب المدرسة العسكرية الطبّية في إسطنبول، دفعها أيضا هدف إسقاط الحكم وبناء دولة على نمط الدول الغربية.

مؤسّس تلك الجمعية هو إبراهيم تيمو الروماني المتأثّر بالمحافل الماسونية الإيطالية، وقد أسماها جمعية الاتّحاد العثماني، ليصبح اسمها لاحقا “جمعية الاتحاد والترقّي”.

بدأت الجمعية أخيرا العمل على النّطاقين الدّاخلي والخارجي، كما استطاعت التّغلغل في وحدات الجيش وبين موظّفي الدّولة، فقد كانت للجمعية جناحان يعملان بالتّزامن، وهما جناح مدني وآخر عسكري.

وقد استطاعت الجمعية إجبار السّلطان على إعادة العمل بالدّستور في عام 1908. فرغم أنّ السّلطان كان علم بمخطّطات الجمعية، إلّا أنّه لم يستق إيقافها لأنّ مراقبته لها جاءت متأخّرة، كما كان التآمر عليه أكثر ممّا يستطيع السّيطرة عليه.

ما فعلته الجمعية هو تحريض الأهالي للثّورة والمطالبة بإعادة العمل بالدّستور. وقد زحفت الثّورة نحو إسطنبول ما أدّى بالسّلطان للخضوع للضّغط.

عزل السلطان

لم تستطع جمعية الاتحاد والترقي عزل السلطان في تلك الفترة لأنّه كان ليّنا معهم واستجاب لمطالبهم. ولأنّ الشّعب العثماني كان لا يزال يحترم شخص السلطان.

ومن أجل ذلك تمّ تدبير ما يسمّى بحادث 31 مارت سنة 1909، والّذي خلّف قتلى في صفوف عسكر جمعية الاتّحاد والترقي، ودخل على إثره جنود الجمعية من سولانيك إلى إسطنبول لعزل السلطان عبد الحميد الثاني. وقد وجّهوا له ثلاث تهم هي: إحراق المصاحف، والإسراف، والظّلم وسفك الدّماء.

وقد تبنّت الجمعية في مخاطبتها للشّعب العثماني الخطاب الدّيني لتكسبهم به. وقد صدرت على إثر ذلك فتوى لخلع السّلطان، حيث تكوّنت لجنة من أربعة أشخاص لإبلاغه بالقرار، وهم:

– إيمانويل قراصنو: وهو يهودي إسباني، كما أنّه الأستاذ الأعظم لمحفل مقدونيا الماسوني.

– آرام: وهو أرمني وعضو في مجلس الأعيان العثماني.

– أسعد طوبطاني: ألباني، وهو نائب في مجلس المبعوثين.

– عارف حكمت: فريق بحري، وهو عضو في مجلس الأعيان الكردي.

وقد أعرب السّلطان في ردّه عليهم أنّه لا يحزنه العزل، بل المعاملة غير المحترمة من خلال اتّهاماتهم له، كما استهجن وجود يهودي ضمن أعضاء اللّجنة، وكيف يقحمونه في أمور الخلافة.

احتفل اليهود في سولانيك بهذا اليوم وأقاموا مظاهرات كبيرة تعبّر عن فرحتهم، كما طبعوا تلك المظاهرات في بطاقات بريدية ظلّت تُباع في تركيا لمدّة طويلة. كما عبّرت مختلف الصّحف اليهودية عن فرحتها وأطلقوا على السلطان عبد الحميد الثاني لقب “مضطهد إسرائيل”.

تولّي بعد السلطان عبد الحميد الثاني أخوه محمد رشاد، لكنّ السّلطة الحقيقية كانت بيد جمعية الاتحاد والترقي.


قد ترغب بقراءة: لنناقش فكرة كون لقاح فيروس كورونا مؤامرة، وأفكار أخرى تتعلق بنظرية المؤامرة

وفاة السلطان عبد الحميد الثاني

تمّ نفي السّلطان إلى ولاية سولانيك حيث أمضى ما تبقّى من حياته فيها إلى أن توفّي سنة 1918، أي قبل سنوات من إعلان العلمانية محلّ الخلافة الإسلامية في تركيا.

كان السلطان قد كتب في رسالة وجّهها إلى الشيخ محمود أبي الشامات، وذلك بعد عزله، قال فيها: “إنّ هؤلاء الاتّحاديين قد أصرّوا عليّ بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدّسة، ورغم إصرارهم لم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف. وأخيرا وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهبا فرفضت هذا التّكليف بصورة قطعية أيضا، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي: إنّكم لو دفعتم ملء الدّنيا ذهبا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي. لقد خدمت الملّة الإسلامية والأمّة المحمّدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلن أسوّد صحائف المسلمين. وبعد جوابي هذا اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنّهم سيبعدونني إلى سولانيك. فقبلت بهذا التكليف الأخير. هذا وحمدت المولى وأحمده أنّني لن لم أقبل بأن ألطّخ العالم الإسلامي بهذا العار الأبدي النّاشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدّسة”.

من الجدير بالذّكر أيضا أنّ جمعية الاتحاد والترقّي قد بدأت بالتغنّي بالطورانية منذ ظهورها، ويعني ذلك تغنّيهم بتاريخ أسلافهم وميلانهم إلى القومية التّركية. وقد تعلّقت الطّورانية باليهودي موئيز كوهين الّذي أسّس الفكر الطّوراني في الدّولة العثمانية.

وقد كان هذا اليهودي نشطا في التّعريف بحركة الاتحاد والترقي في الصحف الأوروبية.

وقد انتبه أفراد جمعية الاتحاد والترقي لاحقا كيف تمّ استغلالهم من قبل الصّهيونية. فقد قال أنور باشا الّذي لعب دورا مهمّا في الانقلاب وهو يتحدّث مع أحد أركان الجمعية “أتعرف يا جمال ما هو ذنبنا؟ وبعد تحسّر عميق قال، نحن لم نعرف السلطان عبد الحميد، فأصبحنا آلة بيد الصهيونية، واستثمرتنا الماسونية العالمية، نحن بذلنا جهودنا للصهيونية، فهذا ذنبنا الحقيقي”.

وقال أيضا أيوب صبري قائد الاتحاديين العسكريين: “لقد وقعنا في شرك اليهود عندما نفّذنا رغباتهم عن طريق الماسونيين لقاء صفيحتين من الليرات الذّهبية. في الوقت الّذي عرض فيه اليهود ثلاثين مليون ليرة ذهبية على السلطان عبد الحميد لتنفيذ مطالبهم، إلّا أنّه لم يقبل بذلك”.



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أسماء عابد
أسماء عابد   
أستاذة جامعية حاملة لشهادة دكتوراه في الهندسة الميكانيكية. كاتبة ومدوّنة ومترجمة وباحثة أكاديمية تعشق الكتب والتاريخ والحضارات
تابعونا