الوسطية في الإسلام

الوسطية في الإسلام وكيف ينظر إليها المسلم المتشدّد والمسلم الكيوت

الوسطية في الإسلام هو موضوع لله الكثير من الأهمّية. إذ بمجرّد أن يتمّ ذكر الوسطية والاعتدال عند المسلم “المتشدّد” فإنّه يعتبر ذلك تراخيا في الدّين. بينما إذا ما تمّ ذكر تلك الوسطية عند المسلم “الكيوت” فإنّه يعتبر الإسلام ظالما دمويا قاهرا للحرّيات.

لكن ما لا يعلمه الطرفان هو أنّ النظرة الضيّقة للأمور خطيرة. أن ننظر للإسلام من زاوية واحدة هو أمر بالغ الخطورة، وسأبيّن بعض مخاطر ذلك عبر التاريخ وممّا نراه اليوم أمامنا.

وفي الحقيقة نحن حينما نتحدّث عن الإسلام فهو في أصله دين وسطي معتدل. أي لسنا نحن من سنجعله وسطيا بأخذ أحكام وترك أخرى، أو بغضّ النظر عن بعض الأحكام. بل الدين الكامل هو دين معتدل. ومن جعله دينا متشدّدا أو دينا مستهترا هم الناس واستخدامهم السيّء له.

سأحاول أن أشرح في هذا المقال أكثر عن فكرة الاعتدال والتشدّد والاستهتار. وأبيّن الخلل الواضح الّذي يؤدّي إلى هذا أو ذاك ويبعدنا عن الوسطية.

احصل على ثانوية الأشباح

قد ترغب بقراءة: لماذا لم يتوقّف تقليد الآباء والأجداد ومشايخ الدين رغم ذمّ القرآن للآبائية؟

لماذا نبتعد عن الوسطية في الإسلام؟

المشكلة فيمن لا يفهم وسطية الإسلام تتمثّل في الأخذ بطرف الخيط وغضّ النظر عن الطرف الآخر. فمثلا إذا ما قرأت آية “فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ”، فستخرج لقتل كلّ مشرك على هذه الأرض. وإذا قرأت آية “لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ”. فستبصق في وجه كلّ مشرك أو كتابي أو أيّ طائفة أخرى غير مسلمة. بينما إذا ما قرأت “لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ”. فستدرك بأنّك مطالب بالإحسان إلى الأطياف والديانات الأخرى، طالما هم لا يؤذونك في دينك وطالما هم لا يسيئون لدينك.

هذا مثال بسيط فقط لأبيّن بأنّ النظر في آية أو حديث في قضيّة ما وبناء حكم عليه دون الاطّلاع على بقيّة الآيات والأحاديث هو خطأ كبير. ومثل هذا الخطأ أخرج لنا الخوارج، وأخرج لنا داعش المعاصرة. ولو استمع قليل علم لما يقوله تنظيم داعش وكيف يبنون أحكامهم على ما جاء في القرآن والسنّة فسيراهم على حقّ ويتابعهم. وهنا تماما تكمن خطورة الدين.

الدّين يكون نورا حينما يُفهم بشكل صحيح.

فيخرج الناس من ظلمات الديانات المحرّفة ومن ظلمات فقه البشر النّاقص، إلى نور شريعة الله خالق السماوات والأرض. لكن إذا ما تمّ فهم الدين بشكل خاطئ، فسيؤدّي لتعصّب يؤدّي بدوره إلى الظلمات.

ولأجل هذا حذّرنا الرسول من أخذ العلم من الجهلاء. فحتّى لو حفظ رجل القرآن ورتّله ليل نهار، وحفظ الأحاديث والتفاسير وكلّ الكتب الموجودة في الإسلام، وكان لا يفقه الإسلام فسيكون هنا خطرا أكثر من كونه ذو فائدة. فالإسلام أوّلا يطالب المسلم بأن يتخلّص من آصاره الثقافية ومن سلطان الدنيا عليه. ويكون هذا أولى في حقّ العالم أو الحاكم أكثر منه في حقّ المسلم العادي. فإذا ما كان العالم على علم بكلّ ما في الدين، لكنّه يعيش بعصبيته القبلية، فسيستنبط من هذا الدين ما يراه مناسبا حسب رؤيته العصبية.

ولازلت أذكر كيف ذمّ الألباني هذا التصرّف حينما دخل في نقاش مع من يقولون بوجوب تغطية وجه المرأة في الإسلام ولا يقبلون الأحاديث الّتي تبيّن عدم وجوب ذلك، فقط بسبب خلفية قبلية تقول بأنّ المرأة لا يجب أن تخرج كاشفة عن وجهها. وهي أربعة مقالات مفصّلة يمكنكم الاطّلاع عليها من هنا.

وكمثال آخر، إذا ما كان العالم عليما بكثير ممّا جاء في الدين، وكان عالم سلطان مطبّل، فسيستخدم تلك المعرفة لتبرير ما يقوم به وليّ أمره. ونحن نرى هذه الظاهرة أمام أعيننا ولا يبدو أنّهم يستحون حتّى بعد أن كشف الله نفاقهم. ولذلك قلت بأنّ الدين خطير إذا لم يفهم بالشكل الصحيح.

هل نعيش في حياتنا المعاصرة مظاهر الوسطية في الإسلام؟

في الحقيقة ورغم أنّ العلم انتشر وأصبح سهل المنال حاليا، إلّا أنّه هناك من لايزال يأخذ بجزء واحد من الشرع ويبني عليه أحكامه. وللأسف يحصل هذا من فقهاء أيضا. وقد كنت بيّنت في مقالي عن طلاق الرسول صلى الله عليه وسلّم للسيّدة سودة وعن نشوز الزوج كيف يتمّ بناء الأحكام من قبل البعض باستخدام الطرف الأوّل فقط من الخيط، دون أن يطّلعوا على الطرف الآخر.

وفي مجتمعنا يحصل هذا بشكل كبير أيضا. وأبسط مثال يحضر بالي الآن هو آية ضرب النساء، فإذا ما قرأها أحد لوحدها فسيقول بأنّ الإسلام يأمر بضرب النساء. لكن إن قرأها وسط الشريعة فسيجد بأنّ ضرب المرأة غير جائز مطلقا وهو تعدّ تحصل المرأة فيه على قصاصها ممّن ضربها من القاضي. ولا داعي لأن أفصّل في هذا الموضوع لأنّني سأتحدّث عنه في مقال منفصل قادم بإذن الله.

إذن هنا يتبيّن لك كيف أنّ فهم الدين ليس بسيطا، لكنّه ليس صعبا أيضا. وكلّ ما على الإنسان فعله هو النظر إلى شريعة الله كلّها فيما يخصّ موضوعا ما، لا أن يبني حكما على آية واحدة أو حديث واحد. وطبعا قد لا يكون هذا عملا يقوم به أيّ شخص، بل يجب أن يكون له مختصّون ممّن يستطيعون الإلمام بكلّ شيء.

وعموما نحن في المجتمع الشرقي لا نعيش فقط الإسلام بعيدا عن الوسطية، بل نعيش ضمن خزعبلات ثقافاتنا وتقاليدنا وجاهلية أبو جهل. ولهذا ما نعانيه حاليا ليس فقط الفهم الخاطئ للإسلام، بل أضف إليه تأثير الثقافة والعقليات القبلية. ورفع كلّ هذا الحمل عن هذا المجتمع لا يبدو أمرا سهل المنال ولا قريب التحقّق.

ما قضيّة المسلم الكيوت؟

طبعا قد تحدّثت أعلاه عن المتشدّد الذي إمّا يأخذ الإسلام من طرف واحد، أو يقوم بإسقاط ثقافته عليه. لكن هناك أيضا نوع آخر من فهم الإسلام يتمثّل في الظاهرة الّتي تسمّى بالمسلم الكيوت. وهو المسلم الّذي يسهّل كلّ شيء، إذ تبدو له الوسطية في الإسلام ظلما وتشدّدا. وهذا النوع بدوره قد أمسك بطرف واحد من الخيط وترك الطرف الآخر.

فمثلا حينما يقول الحديث “إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّةِ، وإنَّما لِكُلِّ امرئٍ ما نوَى”. فيأخذ هذا المسلم بأنّ الإيمان في القلب، وأنّني قد أكون مؤمنا أكثر منك رغم أنّني لا ألتزم بالإسلام. لكنّه نسي أن يربط ذلك بقوله تعالى “لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ”.

فهذه الآية تدلّ على أنّ الدّين ليس بحركات ولا بالتوجّه إلى القبلة ولا بالإيمان القلبي وحده ولا بالإنفاق وحده، وكهذا دواليك.

بل يجب أن تكون مجتمعة كلّها. فهذا الدين أقيم على أركان وشرائع محدّدة، إن أخلّ المسلم بها فرصيده ينقص من هذا الدين. فالإيمان في القلب مهمّ، لكن حينما يكون هذا الإيمان سليما فسيقود المسلم بشكل فطري إلى تأدية حق الله من واجبات عليه. وهي ليست واجبات لتقهره أو تظلمه، بل لتحرّره من عبودية الخلق وتذكّره بأن لا يحني رأسه إلّا لخالقه.

وهذا الكلام نفسه لا يعني بأنّ المصلّي المزكّي مقيم اللّيل هو مسلم حقيقي وبإيمان حقيقي، إذا ما كان هذا المسلم سيّء الخلق ينفر منه الجميع. فحسن الخلق هو معيار مهمّ لوزن المسلم الحقيقي. والإحسان والرفق نحو الآخرين مأمور به في القرآن من خلال قوله تعالى “وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ”. وفي السنّة من خلال قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم “إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ”.

وغالبا ما تكون ظاهرة الإسلام الكيوت الّتي انتشرت ناشئة عن فهم خاطئ للدين سمعوه من أحد الفقهاء، فنفروا من الدين وبدأوا بالبحث عن مخرج منه. ولهذا أنا لا أحبّذ السخرية منهم كما يفعل البعض، فنحن جميعا غارقون نحتاج للتكاتف للخروج معا إلى الوسطية الحقّة.

خلاصة القول

كانت هذه فضفضة أخرى لي عن موضوع مهمّ يجب أن نفكّر فيه جميعا بحذر. فالإسلام وسطي دون أن يحتاج لأن يقوم أحد بتكييفه ليكون وسطيا. ونظر الطرفين إلى هذه الوسطية على أنّها تشدّد أو تراخي ليس إلّا رؤية قاصرة للمسألة. وقد رأينا العجب العجاب ممّا يخرج لنا من المسلم المتشدّد الّذي يجعل هذا الدين أشبه بدين أبو جهل، ومن المسلم الكيوت الّذي يجعله دينا سطحيا لا علاقة له بالحياة.

فالإسلام في نفسه شريعة حياة. لكنّ الله لم يحدّثنا في القرآن عن كلّ القضايا الّتي نواجهها في الحياة بالتفصيل. وسنّة الرسول لم تحدّثنا بدورها عن كلّ ما قد نواجهه في الحياة. فالإسلام وضع أعمدة هذا الدين، وترك للعلماء استنباط الأحكام منها على مختلف قضايا الحياة.

ملاحظة: أنا لا أضع روابط الآيات والأحاديث ولا مراجعها لأنّ البحث عنها والتحقق منها سهل من خلال ضغطة زرّ على غوغل. ولا أستخدم في مقالاتي حديثا نبويا إلّا بعد أن أتأكّد من صحّته.

قد ترغب بقراءة: قراءة في كتاب فلسلفة التربية الإسلامية لـ ماجد الكيلاني



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أسماء عابد
أسماء عابد   
أستاذة جامعية حاملة لشهادة دكتوراه في الهندسة الميكانيكية. كاتبة ومدوّنة ومترجمة وباحثة أكاديمية تعشق الكتب والتاريخ والحضارات
تابعونا