كنا مستضعفين في الأرض

تأمّلات في آية “كنا مستضعفين في الأرض”… مع حكاية شخصية تتعلّق بهذه الآية

لطالما فتنتني آية “كنا مستضعفين في الأرض” وجعلتني أشعر أكثر وأكثر بمدى عظمة الإسلام. وأنا أتحدّث عن الآية الّتي يقول فيها الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.

فهذه الآية تتحدّث عن بلاء كبير، حيث لا يستطيع المسلم تأدية دينه بسبب استضعافه في الأرض. لكن هل يعذره الله بسب هذه الحجّة؟ هل يخبره بأن يرضى بالظلم والاستضعاف؟ لا طبعا. بل يكون الجواب على المستضعف جوابا قويّا مليئا بالعزّة: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟

انضمّوا إليّ في هذه الفضفضة لأحكي لكم أكثر عن المعنى الواسع لشقّي هذه الآية: كنا مستضعفين في الأرض، و الشق الثاني: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها. وعن عظمة هذه الآية. وكيف استشعرتها شخصيا في حياتي.

احصل على ثانوية الأشباح

ما المميّز في آية “كنّا مستضعفين في الأرض”؟

ففي هذه الآية الّتي يطلب الله منك فيها أن تهاجر من أرضك، لم يهتمّ بكونك ستترك مسكنك وربّما لن تجد غيره بسهولة، ولم يهتمّ بضياع تجارتك إذا ما رحلت لأرض أخرى، ولم يهتمّ بفقدانك لأحبّائك. بل الحلّ المباشر والوحيد هو أن ترفع الظلم عنك أيّا كانت الطريقة. بل ولن يشفع لك ضعفك إذا ما فارقت الحياة وأنت لا تؤدّي دينك بسبب ضعفك وخوفك ممّن يقهرك. فهذا هو القرآن الّذي يجب أن نفخر به. وهذا هو الدين الّذي يجب أن نفخر به.

وتماما كما تعني هذه الآية الهجرة من الأرض الّتي لا تستطيع أن تؤدّي فيها دينك، فهي تعني أيضا أن تهجر الأرض الّتي تظلمك، وأن ترفض الذلّ المسلّط عليك، وأن تختار العزّة في كلّ أمور حياتك. وصدق عليّ بن أبي طالب حينما قال “الناس من خوف الذلّ في ذلّ، ومن خوف الفقر في فقر”.

فالله حينما يطلب منك أن تهاجر، وحينما يريدك أن ترفع الظلم والذلّ عنك، فهو لن يتركك وحيدا. فالأرض الضائعة والعمل الّذي فقدته والأحبّاء الّذين فارقتهم، كلّ ذلك سيعوّضك الله عنه أضعافا إذا ما عزمت أمرك وتيقّنت بربّك بأنّه لن يتركك.

فهذه الآية يمكنها أن تكون قانونا خاصّا للمسلم تخبره بأنّه مسلم وبأنّ الله يحرسه، فلا ترض بالذلّ ولا ترض بالظلم، بل ارفع عنك ما يقهرك مهما كان ثمن ذلك، وستجد الله يعوّضك عمّا فقدته ويكافئك على يقينك به وتوكّلك عليه. والأهمّ من ذلك، سيفرح بك الله لأنّك شعرت بقيمة هذه النّفس الّتي خلقها الله بداخلك، والّتي يجب أن تكون عزيزة دوما. فالأنفس عند الله ثمينة ولا يجب العبث بها.

قد ترغب بقراءة: هل يجب أن تكون الاهتمامات الشخصية الخاصّة بي مرتبطة بشهادة الدكتوراه فقط؟

تجربتي مع آية كنا مستضعفين في الأرض

لم أحبّ يوما التحدّث عن هذه التجربة لأنّها كانت أمرا خاصّا لم أرغب بشرحه لأحد. لكنّني أشاركها هنا من باب التعريف بمعنى “ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها”، ولتوضيح بأنّه معنى أوسع بكثير من الهجرة الحقيقية فقط، بل يعني كلّ هجرة تنقذ الإنسان من حالة الاستضعاف الّتي يعيشها.

فقد حصل أنّني كنت أعمل في إدارة في إحدى الجامعات، بينما لم يكن ذلك منصبي. فأنا حاملة لشهادة دكتوراه، وأنتظر أن أحصل على منصبي المستحقّ كأستاذ جامعي. لكنّ البلاد لا ترحمنا سواء حملنا الشهادات أم لم نفعل. لكن لست هنا لأرثي حال بلدي.

وكنت في نفس الوقت أقوم بتدريس ساعات كأستاذة جامعية (ما يسمّونه في المشرق: معيد. نسمّيه هنا ساعات مؤقّتة). لكن وفجأة وبعد عدّة تحريضات حسب ما يبدو من أشخاص لا أعرفهم أصلا ولم يكن لي معهم يوما أيّ حديث، تمّ إزالتي من التدريس بدعوى أنّني موظّفة، ولا يجب أن أعمل في وظيفتين في نفس الوقت. ولم تكن تلك إلّا حجّة واهية لا دليل عليها في القوانين. لكن الكرسي يغيّر القوانين في بلادي.

وحينها شعرت بغصّة في حلقي، فقد كنت أتقبّل العمل في منصب غير منصبي لأنّني أحتاج للمال من جهة، ولأنّني كنت أرجو من الله أن يمنحني منصبا دائما كأستاذة جامعية. لكن أن يتمّ حرماني من التدريس كلّيا، فقد كان أشبه بمحو السنوات الأربع الّتي قضيتها في تحضير شهادة الدكتوراه (والّتي لازلت أراها مضيعة للوقت، لكن ليس هذا موضوعنا).

وبدأت فكرة استعادة كرامتي تنخر في عقلي

بحيث جعلتني لا أنام وأثّرت على صحّتي بشكل كبير. شعرت بأنّ كلّ ذلك الصّبر الّذي كنت قد استطعت جمعه، للرّضى بأنّني درست كلّ تلك السنوات ولازال عليّ انتظار سنوات لأحصل على منصبي، كلّ ذلك الصبر قد ذهب سدى. “فها أنا الآن موظّفة عاديّة كما لو أنّني لم أدخل الجامعة أصلا، ناهيك عن الحصول على أعلى شهادة”، هو ما كان يدور بنفسي. وعليّ أن أشرح هنا بأنّني لم أكن أستصغر العمل. فالعمل شرف أيّا كان. لكنّني لم أعد أطيق التعرّض للظلم، ظلم الدراسة الّتي ذهبت سدى، وظلم حرماني من ممارسة حقّي في التدريس.

ثمّ ظهر لي الحلّ بأن أستقيل من عملي، وأن أستعيد حقّي في تدريس تلك الساعات الّتي لا يعادل راتب عام كامل فيها راتب شهر لأيّ موظّف عادي. وطبعا لم تكن تلك المعادلة سهلة ولا مقبولة. ولم أكن أعمل لأحصل على مال إضافي، بل كان عملي ضروريا لغايات كثيرة، ولم يكن بإمكاني بأيّ حال من الأحوال أن أتركه لأنّني كنت أحتاج إلى ذلك الرّاتب.

وصرت ضائعة بين سندانين. أن أترك عملي وأستعيد كرامتي وأنتقم من كلّ من حاول رؤيتي ذليلة. أو أن أرضى بذلّي وأرضى بحسرتي على سنوات عمري الضائعة، وأحافظ على راتبي الّذي أحتاجه. ولم تكن تلك معادلة سهلة. خاصّة لشخص مثلي له الكثير من الكبرياء ويعتبر الكرامة أمرا ضروريا للحياة لا يمكن أن أعيش بدونها. كما كنت أعلم أيضا بأنّ رضاي بالظلم ليس حلّا، وليس من الإسلام في شيء. فلطالما كنت أفتخر بهذا الدين الّذي يعلّمنا أن نعيش بعزّة تليق بالمسلم.

وحينها قرّرت بأنّني سأستقيل،

وبأنّني سأحاول تأمين المال من خلال العمل الحرّ. ولم تكن تلك فكرة سهلة التطبيق، لكنّني لم أكن أعرف ما الّذي أستطيع فعله. وخلال حيرتي وهمّي، جاء الفرج من جهة أخرى. كان فرجا لم أتوقّعه مطلقا ولم أكن بانتظاره. وما أعنيه بالفرج هو مصدر دخل يعوّض ذلك العمل الّذي أردت تركه.

وقد كانت تلك لحظة من تلك اللحظات الّتي لا أنساها في حياتي. تلك اللّحظات الّتي ييأس فيها الإنسان ويحاول التفكير في حلّ لمشكلته بكلّ الطرق الممكنة، فيفاجئه الله بحلّ لم يخطر أصلا على باله. وهي لحظات تدلّ على عظمة الله من جهة، وعلى حقيقة التوكّل واليقين بالله وبأنّه مخرج من كلّ ضائقة، مهما كانت صعبة وعسيرة.

وبتلك الطريقة قدّمت استقالتي وحيّرت الصديق والعدوّ باستغنائي عن وظيفة دائمة بسهولة. لكنّ أحدا لم يعلم بكلّ ما مرّ معي وكلّ ما دار بيني وبين الله. ولست أتحدّث هنا عن هذه القصّة إلّا من باب “وأمّا بنعمة ربّك فحدّث”. وبأمل أن يقرأها شخص ما فيتشجّع لرفع الظلم عنه ويضع ثقته الكاملة بالله وهو يسعى لإيجاد الحلّ.

قد ترغب بقراءة: العمل الحر عبر الأنترنت… شرح مفصّل لخطوات دخوله

خلاصة القول

لازلت أرى في آية “كنا مستضعفين في الأرض” وآية “ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها” بأنّ بقائي في هذا البلد الظالم الّذي يحرم الإنسان من الأحلام ويتركه يجري خلف لقمة العيش، يجعلني أقبل الظلم. ويشهد الله بأنّني أحاول بشدّة الخروج من هذا الظلم وألّا أرضى به مهما حصل. وأنا أعلم بأنّ مجرّد المحاولة والتوكّل على الله سترزقني مخرجا.

ولهذا أتمنّى من كلّ من يعيش في ذلّ أو ظلم مسلّط عليه أن يسعى بجهد للخروج منه. وأن يقدّم كرامته وعزّته على الدنيا وما فيها. والأهمّ من ذلك أن يثق بالله، فهو من قال “ادعوني أستجب لكم”، فمن يثق بالله لن يخيب أبدا.



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أسماء عابد
أسماء عابد   
أستاذة جامعية حاملة لشهادة دكتوراه في الهندسة الميكانيكية. كاتبة ومدوّنة ومترجمة وباحثة أكاديمية تعشق الكتب والتاريخ والحضارات
تابعونا