حكم تغطية الوجه في الإسلام

هل يجب على المرأة تغطية وجهها في الإسلام؟ (1)

سنعالج في هذا المقال موضوعا مهمّا جدليا ربّما يحتاج لبعض التّوضيحات عن سبب هذا الجدل، ويتعلّق الأمر بوجوب تغطية المرأة وجهها من عدمه في الإسلام، أي بحكم تغطية الوجه.

انطلقت شرارة هذا “الخلاف” إن صحّ القول في خمسينيات القرن الماضي، وذلك حينما نشر ناصر الدّين الألباني كتابه “جلباب المرأة المسلمة[1]، والّذي شرح فيه أنّ تغطية الوجه ليست واجبة على المرأة، واستنكر من ألزم المرأة بذلك وقال أنّه شرع الله. تلقّى الألباني سيلا من الانتقادات على قوله بأنّ وجه المرأة ليس بعورة وأنّه يحقّ لها أن تكشفه، وقد تجاوزت تلك الانتقادات الردّ العلمي لتصبح تهجّما واتّهاما للألباني أنّه يتّبع هواه وأنّه يبيح التبرّج وما إلى ذلك.

لكن ربّما أهمّ كتاب جمع الردّ على الألباني والّذي قد اتّخذت منه مادّة لهذا المقال هو كتاب الصّارم المشهور [2] لكاتبه حمّود التّويجري، وقد اعتمدتُ عليه هنا لأنّ كثيرا من مؤلّفي الكتب ممّن يرون أنّ تغطية الوجه واجب كانوا قد اعتمدوا على ما قاله التّويجري في كتابه.

تمّ نشر كتاب التّويجري في السّبعينات، وقد استنكر بأشدّ اللّهجات كيف أباح الألباني للمرأة أن تكشف وجهها واتّهمه مرّة بالإلحاد ومرّة باتّباع الهوى وغيرها من التّهم. وقد سرد التّويجري، كما سرد الألباني، دلائله على صحّة ما يقوله، وذلك من أحاديث وتفاسير لآيات القرآن، إضافة إلى أقوال السّلف. ثمّ أضاف الألباني كتابا آخر هو الردّ المفحم [3]، والّذي تمّ نشره سنة 2000، أي بعد وفاة الألباني، وقد جاء فيه ردّ مفصّل على ما كتبه التّويجري وآخرون مثله عن واجب تغطية الوجه.

أنت كقارئ لا خبرة لك في هذه المسائل، إن قدّمت إليك كتاب الألباني (دون أن أريك كتاب التّويجري) فستصدّق ما فيه، وإن قدّمتُ إليك كتاب التّويجري (دون أن أريك كتاب الألباني) فستصدّق ما فيه! (وإن كان هناك فرق شاسع بين الكتابين لن يدركه إلّا باحث أكاديمي، وسأوضّحه لاحقا).

احصل على ثانوية الأشباح

إذن أين هي المشكلة؟ كيف يمكن أن يكون حكم تغطية الوجه واجبا وغير واجب في نفس الوقت؟

هل ظهر هذا الخلاف فجأة؟

علينا أن نعلم قبل كلّ شيء سبب ظهور الخلاف في هذا الموضوع في الخمسينات وعن طريق الألباني. فكما نعلم جميعا فترة الخمسينات كانت فترة بداية تشكّل الدّول العربية على ما هي عليه الآن، وقبلها كانت الأوضاع غير مستقرّة على الإطلاق، فكانت معظم الدّول العربية تحت الاستعمار بعد أن تمّ تفتيت الدّولة العثمانية وتدمير الوحدة الإسلامية. ورغم أنّ فترة الخمسينات نفسها لم تكن مستقرّة بما يكفي، نظرا للوجود الصّهيوني الّذي كان يشغل بال الدّول العربية، إلّا أنّها الفترة الّتي بدأت فيها ملامح الحياة الجديدة في دويلات سايكس بيكو [4] تظهر شيئا فشيئا، وكان من الطّبيعي جدّا بالنّسبة لمحقّق مثل الألباني أن يتحدّث عن هذه المسألة الّتي أراد توضيحها بعد أن توفّرت لديه الأدلّة.

إذاً هل كان هذا الخلاف موجودا قبل تلك الفترة؟ وهل كانت المرأة تغطّي وجهها أم لا؟ ستحتاج هذه الأسئلة لموضوع منفرد للإجابة عنها، لكن ستكون هناك نصف إجابة لها خلال معالجتنا لفترة الخمسينات وما بعدها.

قد ترغب بقراءة: أصل عيد الحب وهل هو عيد ديني مسيحي أو عيد وثني؟

ما الّذي قاله الألباني في كتاب “الجلباب” بشأن تغطية الوجه؟

سنبدأ بما ورد في كتاب الألباني الأوّل، وما هي الأدلّة الّتي اعتمد عليها في قوله أنّ تغطية الوجه والكفّين غير واجبة.

1. تفسير ابن عبّاس وجمع من السّلف لآية “إلّا ما ظهر منها”

على أنّ المقصود هو الوجه والكفّان، بينما تفرّد ابن مسعود بقوله أنّ المقصود منها هي الثّياب.

2. حديث عائشة عن قول الرّسول عن جواز إظهار الوجه والكفّين.

وقد ذكر الألباني أنّ الحديث مرسل، لكن يتمّ تقويته بطرق أخرى كما فعل البيهقي والذّهبي، وهي قاعدة علمية في علم الحديث.

3. حديث جابر بن عبد الله حينما قال “شهدت مع رسول الله الصّلاة يوم العيد”، ثمّ وصف إحدى النّساء الّتي تكلّمت مع النّبي بأنّها سفعاء الخدّين.

فلو لم يكن وجهها مكشوفا لما استطاع أن يصفها بهذه الصّفة. وهو حديث أخرجه مسلم وغيره.حديث الفضل بن عبّاس حينما استفتت امرأة جميلة رسول الله يوم النّحر، فأدمن النّظر إليها ما جعل الرّسول يدير له رأسه كي يمنعه من النّظر. وهو حديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وهو دليل على أنّ المرأة غير مطالبة بستر وجهها لأنّ الرّسول لم يأمرها بذلك، بل أدار وجه الفضل حينما رآه يطيل النّظر إليها. وقد وقع الحديث يوم النّحر، أي لم تكن المرأة محرمة، كما وقع في أواخر حياة الرّسول، ما يعني أنّه لم يحصل قبل نزول آية الجلباب.

4. حديث ابن سعد أنّ امرأة جاءت تهب نفسها للرّسول، فصعّد النظر إليها وصوّبه، وسكت فجلست المرأة.

حديث أخرجه مسلم والبخاري وغيرهما، وقال عنه الحافظ أنّه دليل على جواز النّظر إلى المرأة لإرادة تزويجها، وإن لم تتقدّم الرّغبة في ذلك.

5. حديث عائشة عن أنّ النّساء كنّ يشهدن صلاة الفجر مع الرّسول متلفّعات بمروطهنّ، ثمّ يعدن إلى منازلهنّ لا يُعرفن من الغلس.

حديث أخرجه مسلم والبخاري وغيرهما. وقد قال الألباني أنّ الحديث دليل على أنّ وجوههنّ كانت مكشوفة، فقد قالت عائشة لا يعرفن بسبب الغلس، فلو كانت وجوههنّ مستورة لما عرفهنّ أحد ولما عرفن بعضهنّ البعض، سواء كان هناك نور أو ظلام. وقد ذكر هذا التّفسير الشّوكاني عن الباجي كما قال الألباني.

6. حديث فاطمة بنت قيس الّتي أمرها النّبي أن تمضي عدّتها عند أمّ شريك،

ثمّ قال لها بأنّها امرأة كثيرة الضّيفان “فإنّي أكره أن يسقط خمارك أو ينكشف الثّوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين”. ثمّ أمرها أن تعتدّ في بيت ابن عمّها ابن أمّ مكتوم، لأنّه لن يراها حين تضع خمارها كونه أعمى. هذا حديث أخرجه مسلم في صحيحه، ويستخدمه الألباني دلالة على أنّه للمرأة أن تظهر بخمارها أمام الرّجال، والخمار هو غطاء الرّأس، وسيأتي بيان خلاف التّويجري لمعنى الخمار. هذا الحديث قد جاء في أواخر حياة النّبي، أي بعد آية الجلباب.

7. الحديث عن ابن عبّاس حينما وعظ الرّسول النّساء بعد صلاة العيد

وأمرهنّ بالصّدقة، فقال ابن عبّاس “فرأيتهنّ يهوين بأيديهنّ” أي يلقين الصّدقات في الثّوب الّذي كان بسطه بلال لهنّ. هذا الحديث قد أخرجه البخاري وغيره، واتّخذه الألباني دلالة على أنّ اليد ليست بعورة. وقال بهذا ابن حزم قبله، فهناك من يقول أنّ النّساء كنّ يغطّين أيديهنّ بجلابيبهنّ!

8. حديث سبيعة بنت الحارث حين توفّي زوجها ثمّ وضعت حملها فتجمّلت للخطّاب،

ورآها رجل قد اكتحلت واختضبت أراد خطبتها. أخرجه أحمد وموجود في الصّحيحين أيضا (يختلف نصّ الحديث). وهو دليل على أنّ وجهها أو عينيها على الأقلّ وكفّيها كانا مكشوفين. (الاختضاب أي وضع الحنّاء في اليدين).

9. حديث عائشة أنّ امرأة جاءت إلى الرّسول تبايعه ولم تكن مختضبة فلم يبايعها حتّى اختضبت.

قال الألباني حديث حسن أو صحيح أخرجه أبو داود، وله شواهد كثيرة.

10. حديث عطاء بن أبي رباح حين أخبره ابن عبّاس عن امرأة سوداء

كانت تُصرع فطلبت من الرّسول أن يدعو لها. وهو حديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.

11. حديث ابن عبّاس عن المرأة الحسناء الّتي كان الرّجال يتأخّرون في آخر صفّ في الصّلاة ليروها.

قال الألباني رواه أصحاب السّنن وصحّحه ووافقه الذّهبي، كما هو موجود في “الصّحيحة” للألباني. وهو دليل على جواز كشف المرأة وجهها. وهو خلاف لمن يقولون بأنّه يجب عليها أن تغطّي وجهها ولو في الصّلاة إذا ما كانت أمام رجال، بل يقولون يجب ألّا يُرى ظفرها حتّى!

12. حديث ابن مسعود أنّ الرّسول رأى امرأة أعجبته

فذهب إلى زوجته سودة وأوصى أن يفعل مثله أيّ رجل يرى امرأة تعجبه. أخرجه الدّارمي ومسلم وابن حبّان، وهو مخرج في “الصّحيحة”.

13. حديث عن عبد الله بن محمّد عن امرأة دخل عليها الرّسول وهي تأكل بشمالها فضرب يدها

وأمرها أن تأكل بيمينها. هو حديث أخرجه أحمد في مسنده، رجاله ثقات.

14. حديث ثوبان أن جاءت بنت هبيرة إلى الرّسول وفي يدها خواتم ذهب كبيرة،

فضرب الرّسول يدها بعصيّة معه مستنكرا ما رآه. قال الألباني أنّ إسناده صحيح (وهناك من لا يقبل بذلك كما أورد الألباني). كما قد صحّحه ابن حزم والحاكم والذّهبي والمنذري والعراقي.

ختام أوّل جزء من موضوع وجوب تغطية المرأة لوجهها

بهذا نكون قد أوردنا الأدلّة الّتي جاء بها الألباني. ولأنّ المقال قد طال فسنقسّم الموضوع إلى أجزاء. وسنواصل في الجزء القادم بإذن الله تبيان الأدلّة الّتي جاء بها التّويجري.

[1] الألباني، محمّد ناصر الدّين، جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنّة، دار السّلام، طبعة منقّحة، القاهرة، 2002. (استخدمتُ هنا طبعة منقّحة كان قد أنجزها الألباني سنة 1991 تقريبا، أمّا أوّل طبعة من الكتاب فقد نزلت سنة 1951).

[2] التّويجري، حمّود بن عبد الله، الصّارم المشهور على أهل التبرّج والسّفور، الطّبعة الثّانية، 1979.

[3] الألباني، محمّد ناصر الدّين، الردّ المفحم على من خالف العلماء وتشدّد وتعصّب وأزم المرأة أن تستر وجهها وكفّيها وأوجب ولم يقنع بقولهم: إنّه سنّة ومستحبّ، المكتبة الإسلامية، عمان، الطّبعة الأولى، 2000.

[4] سايكس بيكو هي المعاهدة الّتي عقدتها فرنسا وبريطانيا لتقسيم الإمبراطورية العثمانية إلى الدّول الّتي نعرفها الآن.

قد ترغب بقراءة: الولاية على المرأة في الإسلام.. لماذا يصرّ البعض عليها رغم عدم وجود دليل عليها؟



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أسماء عابد
أسماء عابد   
أستاذة جامعية حاملة لشهادة دكتوراه في الهندسة الميكانيكية. كاتبة ومدوّنة ومترجمة وباحثة أكاديمية تعشق الكتب والتاريخ والحضارات
تابعونا