هو حتما موضوع غريب ومعقّد أن نفهم مدى تأثير الخرافات على المجتمع. إذ يبدو أمرا في غاية الغموض بالنسبة لي أن يصدّق شخص متعلّم متديّن بخرافات لا أصل لها، بل ولا منطق لها. وهو دليل آخر ربّما على أنّنا نعيش في جاهلية أسوأ من جاهلية أبو جهل كما سبق وبيّنت في مقالات أخرى.
سأحكي لكم في هذا المقال عن مواقف عشتها شخصيا شهدت فيها مدى إيمان الناس بالخرافات. وقد وقفت فيها مندهشة لا أصدّق ما تراه عيناه وما تسمعه أذناي. كما سأحاول أن أناقش قليلا سبب تصديق مجتمعاتنا لمثل هذه الخزعبلات الّتي يُفترض أنّها انقرضت منذ عقود. فانضمّوا إليّ في هذه الفضفضة لمناقشة موضوع مهمّ يجب أن يتخلّص منه المجتمع ليتقدّم نحو الأمام.
قد ترغب بقراءة: هل تعلم بأنّ حديث “أبغض الحلال إلى الله الطلاق” هو حديث ضعيف؟
بعض المواقف لتأثير الخرافات على المجتمع
لازلت أذكر حادثة حصلت في مكان ما كنت أعمل فيه. إذ لم نعثر على أحد الأغراض، وكان احتمال سرقته احتمالا كبيرا لأنّه اختفى من مكانه بشكل مريب. وحينها نطق أحدهم قائلا “لنقم بتعليق مقص”، وأيّده البقيّة فورا بأنّها فكرة جيّدة لإيجاد الغرض المسروق. أمّا أنا فقد كنت مثل الأطرش في الزفّة، إذ لم أفهم ما الّذي يحصل وأيّ نوع من الطقوس هذا الّذي يؤدّونه معا دون إشراكي.
وحينما سألت اتّضح بأنّ تعليق مقصّ سيؤدّي إلى ظهور الغرض، بشكل ما! لم أكد أصدّق ما يحصل. وما جعلني لا أصدّق أكثر هو كيف أنّهم جميعا يعرفون هذه الشعوذة ويؤمنون بأنّ المقصّ سيؤدّي إلى ظهور الغرض فعلا. تلك الحادثة لم تكن إيمانا أعمى فقط، بل تجاوزت حدود الفيزياء والعقل أيضا.
وفي نفس الحادثة أيضا، نطق أحدهم قائلا بأنّه سيجلب “تراب سيدي شخص ما”، لا أذكر الاسم جيّدا. مفتخرا بأنّ التراب سيظهر الغرض مئة بالمئة، أو يظهر سارقه، لا أذكر ما هي الفكرة في ذلك. ومن جديد، كلّهم أيّدوه في تلك الفكرة وقالوا بأنّها الحلّ الأنسب. وثانية، كنت أنا أقف هناك لا أفهم ما يجري حولي، ولا أصدّق كيف يؤمن أشخاص متعلّمون يعيشون في هذا القرن خزعبلات كتلك.
هذا عدا عن مناطق سياحية زرتها هنا وهناك رأيت فيها أشخاصا يزورون ما يسمّى عندنا “الزاوية”،
حيث يتمسّحون بقبر من يزورونه ويعطون المال لمسؤول المكان، ويدعون هناك لتتحقّق أمانيهم. ناسين بأنّ الله قال “ادعوني أستجب لكم”، ولم يطلب منّا التمسّح بقبر أيّ أحد. بل لو كان قبر أحد نافعا للبشر لكان قبر الرّسول صلى الله عليه وسلّم. وهو من منع النّاس من تقديس الأشخاص بما في ذلك الرسل.
ولازلت أذكر منطقة جميلة في بجاية تُدعى “لالة قوراية”، إذ كان صعودي إليها مع عائلتي من باب الترفيه والتحدّي. لأجد أعلاها أشخاصا أتوا ليزوروا قبر المرأة الّتي دفنت هناك حسب ما فهمت. وقد كانوا يؤدّون طقوسا غريبة مع إشعال الشموع وضرب الدف. وقد شعرت لوهلة بأنّني عدت بالزمن إلى ما قبل الميلاد. بل وقد رأيت سيّدة كبيرة في السنّ كان واضحا مدى مشقّة صعود تلك المنطقة عليها. وفهمت من خلال حديثها مع ابنتها بأنّها تخوض هذه المشقّة لتزور قبر المرأة الصالحة وتتمسّح به لتحصل على بركتها.
وأذكر أيضا مناطق كثيرة في الصحراء كنت أزورها مع جدتي رحمها الله. والواقع بأنّ جدّتي، رغم أنّها من الجيل القديم، لكنّها لم تكن تصدّق أيّا من تلك الخزعبلات. إذ كنّا نزور ما كانوا يسمّونها “القبّة” على ما أعتقد. فنجد فيها ملابس وفراشا وحليّا معلّقة. كلّها من أشخاص يزورون تلك المنطقة ليحصلوا على بركتها أو شيء من هذا القبيل. وقد كنّا نسخر منهم ونحن نتفرّج على كلّ ما تركوه في تلك الأماكن.
ورغم أنّني مررت بأحداث كثيرة من هذا النوع، إلّا أنّني لا أستطيع أن أوقف دهشتي من جهة، ولا أستطيع أن أوقف شعوري بالأسى على أولئك الأشخاص من جهة أخرى. خاصّة وأنّنا سمعنا قصصا كثيرة تقول بأنّ الاحتلال الفرنسي حينما كان في بلادنا، قام بدفن كلاب في تلك المناطق وأوهم النّاس بأنّها قبور أشخاص صالحين.
ما سبب هذا الكمّ من تأثير الخرافات على المجتمع؟
من المحزن أن ترى مجتمعا في وقت تطوّر فيه العلم كلّ هذا التطوّر يؤمنون بخرافات لا يصدّقها العقل السويّ. والأهمّ من ذلك، من المؤسف أن يؤمن مجتمع، يُفترض بأنّه متديّن، بتأثير جمادات لا تنطق. وكأنّنا عدنا لعهد عبادة الأصنام! أفلا يشبه التمسّح بالقبور ما كان يفعله القدماء من عبادة للأصنام؟ فحينما كان يُسألون عن نفعها، كانوا يجيبون بأنّهم يتقرّبون إلى الإله من خلالها! وهي نفس إجابة من يعيشون الجاهلية المعاصرة.
هل أخبرهم الله بأنّ هناك حاجزا بينهم وبينه ليبحثوا عن صنم يقرّبهم منه؟ أم هل من الصعب جدّا أن يرفعوا أيديهم إلى الله بالدعاء، بينما يسهل زيارة قبر والتمسّح به للحصول على الاستجابة؟ لا أدري بأيّ منطق يفكّر هؤلاء.
وطبعا فهم سبب إيمان الناس بأنّ المقصّ يجلب الغرض الضائع أو المسروق أصعب من فهم الفئة الأولى. فلا أدري بأيّ قانون فيزياء يمكننا أن نربط بين تعليق المقصّ وظهور الغرض المسروق؟ أو معنى استخدام “تراب” لفعل ذلك؟ هذا عدا عن أمور أخرى يقوم بها الناس. كظنّهم بأنّ الشعور بالحكّة في اليد تعني حصولهم على المال قريبا. وبأنّ رؤية السيّارة الحمراء تعني شيئا ما لا أذكر ما هو. وبأنّ سقوط رمش تحت العين يعني بأنّ ضيفا سيزور المنزل!
لا شكّ بأنّ مثل هذه الخزعبلات مصدرها موجة جهل حلّت بالمجتمع.
لكن أن يكبر الجيل الجديد على نفس الأفكار يعني بأنّ التعليم لا يقوم بدوره. فالتّعليم لا يجب أن يشمل تعليم الأرقام والحقائق فقط، بل تعليم التفكير السليم أيضا. فإن تعلّم الطفل بأنّ الأمور حينما تحصل، يجب أن يكون لها سبب ونتيجة، لما كبر يصدّق خرافات. بل لقام بنفيها من عقله ومساعدة والديه على التخلّص منها.
ولا ننسى دور الدين أيضا. والّذي للأسف لا يتمّ تعليمه في المدارس بالشكل المطلوب. ولا يقوم المسجد بدوره كما ينبغي، عدا أنّ الذهاب إلى صلاة الجمعة ليس أمرا معتادا تقوم به كلّ العائلات رغم ما في تلك الخطب من فوائد قد تغيّر التفكير إلى الطّريق السليم. فالله لم يأمر النّاس بالتبرّك بالحجارة. والله أمرنا باتّخاذ الأسباب، أي إنّنا إن عزمنا التوكّل عليه دون أن نتحرّك فلن ننجح في شيء مهما كان إيماننا كبيرا. فالدّين وحده يعلّم الإنسان العلم والإيمان الحقيقي.
وغياب تعليم الدّين السليم كان سببا في اجتياح هذه الخرافات لأذهان المتعلّم والجاهل. بل إنّ جدّتي الّتي لم تدخل المدرسة يوما لا تصدّق تلك الأشياء. لذلك فالجاهل ليس من لم يتعلّم حرفا، بل الجاهل من يرفض أن يستخدم عقله لتصفية ما يجده أمامه من ثقافات ليختار السليم منها ويرفض ما ينافي العقل السليم والدين والمنطق.
خلاصة القول
كنت قد كتبت من قبل مراجعة لكتاب “أشهر 50 خرافة في علم النفس”. وفيه خرافات يتشاركها الناس من كلّ أنحاء العالم. لكن مع ذلك لا تصل تلك الخرافات إلى الحدّ المدهش الّذي وصلته خرافاتنا. وهو كتاب جميل أنصح بقراءته لفهم كيفية تأثير الخرافات على المجتمع.
وأنا حتما أتحدّث في مقالاتي كثيرا عن الجاهلية المعاصرة الّتي نعيشها. وهي حقيقة مهما حاول أيّ شخص نفيها. فأغلب ما نعيشه هو عبارة عن ثقافات متراكمة وعادات وتقاليد وأعراف. وليس الدّين سوى زينة تلبسها العقول لتبرّر الخرافات الّتي تؤمن بها. وتغيير تفكير النّاس ليس سهلا حتما، بل يحتاج ثورة شبيهة بما حدث عند نزول الوحي أوّل مرّة، وشبيهة بما حدث في عهد صلاح الدين الأيّوبي. لكنّها ليست مستحيلة إن تضافرت الجهود للقيام بها.
قد ترغب بقراءة: كيف يحاول العالم العربي إقحام الدين حينما يتعلّق الأمر بعادات وتقاليد محضة