سيكولوجية الجماهير هو كتاب مثير لازال له تأثير كبير منذ كتابته إلى يومنا هذا. ولا شكّ أنّ قراءة هذا الكتاب لكاتبه غوستاف لوبون هو أمر مهمّ للإجابة عن بعض الأسئلة المحيّرة.
قد ترغب بقراءة: قراءة في كتاب الوحي ونقيضه لكاتبه بهاء الأمير
سيكولوجية الجماهير و الشّعوب العربية
قد يكون من العقل حينما نبحث عن أحوال عالمنا العربي المنهار أن نتساءل ما الّذي يمكن أن يؤثّر فيه ويغيّره؟ كيف يمكن أن يتحسّن وما الّذي أدّى به إلى هذا الانهيار؟ فإن كان الخلل في الحكومات فأين الشّعب منها؟ وإن كان الخلل في الشّعوب فما الّذي يمكن أن يحرّكها نحو الأفضل؟ لماذا ثارت الشّعوب العربية فيما يُسمّى بثورات الرّبيع العربي؟ ولماذا فشلت تلك الثّورات؟
لعلّ الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج باحثا يتفحّص جوانب عدّة ليفهم الوضع ويفسّره، ويقدّم الحلّ إن كان ذلك ممكنا. لكنّ المؤكّد أن جزءا من ذلك الحلّ يكمن في دراسة نفسية الشّعوب العربية، ما الّذي يحرّك هذه الشّعوب وما الّذي يؤثّر فيها؟ ما الّذي دفعها للثّورة وما الّذي دفعها للسّكوت والخنوع؟
سيكولوجية الجماهير وتأثير العرق
يتحدّث لوبون كثيرا في كتابه، سيكولوجية الجماهير، عن تأثير العرق على نفسية الجماهير، وهو لم يقصد به العرق بمعناه المعروف، إنّما يقصد مجموعة جماهير قد عاشوا معا لفترة طويلة خضعوا فيها لنفس العقائد والقوانين شكّلت تفكير وروح تلك الجماهير.
وهذا العنصر المهمّ، أي العرق، له دور كبير على دراسة نفسية الجماهير ومعرفة أفعالهم وردود أفعالهم. فلا يمكن التّأثير على الشّعب الغربي بنفس الطّريقة الّتي يتمّ التّأثير بها على الشّعب العربي، وهي نقطة مهمّة تشرح عدّة نتائج عن محاولة تطبيق الطّريقة الغربية على العرب في مجالات عدّة.
سيكولوجية الجماهير لا تشبه سيكولوجية الفرد
من الخصائص المهمّة للجماهير حسب لوبون هي تلاشي شخصية الفرد الّتي تميّزه حينما يكون جزءا من الجمهور، فلا ذكاؤه سينفعه ولا علمه سيمكّنه من اتّخاذ قرارات منطقية سليمة. فالفرد حينما يصبح جزءا من جمهور ما فهو يتحمّس لأفكار بسيطة نتيجة التّحريض والعدوى للعواطف والأفكار، وقد يفعل أمورا لا يمكن أن يفعلها إن كان وحيدا، كالتّحطيم والقتل، وكالتّضحية في سبيل الهدف دون خوف من الموت.
تحدّث لوبون كثيرا عمّا سمّاه العاطفة الدّينية، وهي ما أشعلت الانتفاضات الكبرى كما أدّت إلى تغييرات كبيرة، وهذه العقائد الدّينية ليست فقط دينية تخصّ دينا معيّنا، بل قد تكون بطلا أو فكرة سياسية تسيطر على الجماهير. وهذه العاطفة تملك قوّة مخيفة تجعل الجماهير تخضع لها خضوعا أعمى، فتمضي بعزم لحماية تلك العاطفة كما تعتبر كلّ من يرفضها عدوّا.
يتحدّث لوبون عن الجماهير على أساس تجارب سابقة كالثّورة الفرنسية والثّورات اللّاتينية، وكذا على أسس الحملات الانتخابية ومجالس النوّاب وهيئة المحلّفين وغيرها من التجمّعات الّتي تشكّلها الجماهير، حيث يرى أنّ هذه الجماهير لا تبحث أبدا عن الحقائق إنّما عن الأوهام فقط، إذ يتمّ إقناع هذه الجماهير والسّيطرة عليها من خلال الوعود المضخّمة مثلا أو من خلال عبارات تضرب أوتارا حسّاسة تنسلّ إلى لاوعي تلك الجماهير بحكم العرق الّذي تنتمي إليه، لكنّ المحاجّات العقلانية ومحاولة معاملتها بالحقائق والبراهين لن يؤدّي إلّا إلى تنفيرها وليس جذبها.
فالجماهير ليست كالفرد يبحث عن الحقيقة بالأدلّة والبراهين، بل هي كتلة تبحث عن البساطة لتسير حسبها نحو الهدف الّذي تتوق إليه، ولن يكون ذلك الهدف إلّا نتاج ذكاء شخص أو مجموعة عرفت كيف تحرّك تلك الجماهير فزرعت ذلك الهدف في عقولها.
القائد المحرّك حسب سيكولوجية الجماهير لـ غوستاف لوبون
أمّا القائد المحرّك للجماهير فلا بدّ أن يكون متحمّسا هو أيضا للفكرة الّتي يسير إليها أو يدافع عنها بحيث يزداد حماسا وهيجانا كلّما حقّر الآخرون من أفعاله وآرائه، والحقيقة أنّ الجماهير تنجذب لهذا النّوع من القادة لأن الكثرة تصغي دائما للإنسان المزوّد بإرادة قويّة.
يرى لوبون أيضا أنّ الجمهور يضعف ويفقد قوّته دون قائد، إذ أنّ الجمهور يميل دوما إلى أن يكون له زعيم يقوده ويملي عليه ما يفعل، فما يهيمن عليه ليس حاجته إلى الحرّية بل إلى العبودية، وتلك الحاجة تقوده إلى الخضوع غرائزيا لمن يعلن نفسه زعيما له.
المحرّكات الأهمّ الّتي يعتمد عليها القادة والمحرّكون للجماهير هي حسب لوبون: التأكيد والتّكرار والعدوى. ويكفي أن نفهم طريقة تأثير الإعلانات على الجماهير لنجد أنّها تتّبع هذه الخصائص الثّلاث لتقوم بعملها في استمالة الجمهور. لكنّ هذه الثّلاثية وحدها ليست كافية لتحريك الجماهير، إذ أنّ أهمّ ميزة يجب أن يتحلّى بها القائد هي الهيبة الشّخصية، وهي ما تجعله يفرض نفسه دون أن يقول أيّ كلمة على الجمهور.
وهذه الهيبة يمكن أن تكون مصطنعة كالشّهرة والمال، لكنّ أكثرها تأثير هي الهيبة الطّبيعية. وقد ضرب لوبون مثلا عن نابليون الّذي كان يزرع في نفس من يقابله انطباعا غريبا بأنّ عليه أن يطيعه. ونحن نعرف أنّ الرّسول محمّد عليه الصّلاة والسّلام كان يملك تلك الهيبة، إذ كان حبّه ينسلّ إلى أنفس من يقابلونه وهو ما يلين قلوبهم أكثر للاستماع لرسالته.
أمّا عن كيفية حصول تغيير ضخم في أوساط جمهور، أي تحطيم عقيدة كبرى، فهو حسب لوبون لا يحدث إلّا بعد ثورات عنيفة وبعد أن تفقد تلك العقيدة هيمنتها على النّفوس، فتصبح مهجورة ولكنّها لا تزال موجودة بحكم الأعراف والتّقاليد.
ينتقد غوستاف لوبون التصويت العام
تحدّث لوبون عن التّصويت العام حيث اعتبر أنّ مساوئه واضحة للعيان، إذ أنّ الحضارات هي من صنع أقلّية صغيرة متفوّقة تشكّل قمّة الهرم الاجتماعي، فلا يمكن أن يعتمد التّصويت على طبقة العامّة، وهو ما يشكّل خطرا على الدّول. لكنّه في نفس الوقت يرى أنّ تقليص عدد المصوّتين مع حصرهم في طبقة العلماء والادباء لن يغيّر شيئا، وذلك لأنّ تلك الأقلّية بدورها ستشكّل جمهورا يستثيره ما يستثير الجماهير، ولن يستخدم أفراده العلم والذّكاء للتّصويت.
ويضرب مثلا عن ذلك بالمجالس النّيابية إذ أنّها لا تختلف عن الجمهور في اجتماعاتها وطريقة اتّخاذها للقرارات، فهي تبحث عن تبسيط الأفكار وتميل إلى سرعة الغضب والقابلية للتّحريض والمبالغة في العواطف. ولذلك نرى أنّ كلام برلماني يتحدّث بالعقل والمنطق لن يجذب كثيرا آذان بقيّة النوّاب، عكس ذلك الّذي يتحدّث بحماس وبعبارات مكرّرة لها صدى في وسط الجمهور.
قد ترغب بقراءة: قراءة في كتاب “الأمير” لنيقولا مكيافيلي
خلاصة القول…
ما قدّمتُه هنا هو جزء بسيط لفهم طريقة دراسة علم نفس الجماهير، ولا شكّ أنّ كتاب غوستاف لوبون هو بداية جيّدة لذلك. ولعلّ أهمّ ما يمكننا أن نستنتجه منه هو أنّ الحلول لمشاكل الوطن العربي أو العالم الإسلامي لا تكمن في الجري وراي تجارب الغرب ومحاولة تطبيقها في بلداننا، بل علينا البحث عن حلّ من عمق حضارتنا، حلّ يعرف كيف يسيّر هذه الشّعوب المذبذبة بين الإسلام الّذي تغترب عنه يوما بعد يوم، وبين حياة الغرب الجذّابة الّتي تبدو حلما بالنّسبة لهم.
أمّا إن استمرّت دولنا بالاستيراد من الغرب كاستيراد الدّيمقراطية ومناهج التّعليم والقوانين وطريقة سنّها، فلن يجلب لها ذلك إلّا مزيدا من الانحدار نحو الهاوية.