مرّ حوالي العامين منذ أن فشل زواج بوليانا من خطيبها الّذي اكتشفت خداعه لها في آخر لحظة بمساعدة الامبراطور. فقدت بوليانا الرغبة في الزواج منذ تلك الحادثة، فهي تعلم بأنّ حصولها على زواج عادي دون فقدان لقبها أو إنجازاتها ليس بالأمر المقبول في المجتمع.
لوسيوس يقوم بالفعل بتغيير القانون لأجل بوليانا وتوري وغيرهما من النّساء ممّن لا يحصلن على حقوقهنّ فقط لأنّهنّ ولدن نساء، وطبعا لأجل ابنته لومينا الّتي لا يريد لها مستقبلا مقيّدا.
لكن رغم كلّ ذلك، لا يعني تغيّر القانون بأن تتغيّر العقليات بسهولة، بل سيحتاج الأمر لبعض الوقت.
لم تعد بول تشعر بالغيرة من الفرسان الآخرين بسبب امتلاكهم عائلات لا تستطيع هي امتلاكها، بل قرّرت أن تنظر إلى ما تملك بدلا من الشعور بالأسى على ما لا تملك. ولأنّها قرّرت أخيرا تقبّل الوضع، فقد قامت بتبنّي طفل يحمل لقبها ويكون عائلتها، وقد كان ذلك ممكنا بفضل التغييرات الطفيفة على القانون الّتي استطاع لوسيوس القيام بها.
كان خبر حصول بوليانا على طفل خبرا مفرحا لجميع رفاقها، فقد أصبحت أكثر سعادة وهي تشعر بأنّ هناك من ينتظرها في المنزل.
حينما همّت بوليانا بالخروج من المنزل صباحا، سمعت صوتا يقول “أمّي، هل ستعودين مبكّرا اليوم؟’
كان ذلك جيرالد، ابنها بالتبنّي الذي بلغ ثلاث سنوات.
التفتت بوليانا إليه وقالت وهي تهمّ بحمله “لماذا أنت مستيقظ في هذا الوقت؟”
عانق الطفل والدته بهدوء وعلامات النعاس لا تزال بادية عليه. أمّا عن سؤال بوليانا فقد ردّت عليه مربّية الطفل قائلة “لقد أصرّ على رؤيتك قبل ذهابك إلى القصر”
بوليانا لازالت تعمل كقائد لحرّاس القصر بجانب إينو، ولهذا كانت تذهب إلى عملها في وقت مبكّر. نظرت بول إلى طفلها ثمّ ربّتت على شعره قائلة “سأعود مبكّرا لرؤيتك”
لم تكن بوليانا تعرف كيف تكون أمّا، فهي بدورها لم تختبر في حياتها حنان الأم ولا الأب. لكنّها كانت تبذل جهدها بمساعدة المربّية ومساعدة توري وسيترا لتكون أمّا جيّدة بما فيه الكفاية لجيرالد. وبالفعل، مضى عام تقريبا منذ أن قامت بتبنّي طفلها، وقد أصبح متعلّقا بها كما لو أنّها والدته الحقيقية.
أخذت المربّية الطفل بين ذراعيها، بينما غادرت بول إلى عملها. عادة كان أوّل ما تقوم به هو تحيّة الامبراطور لوسيوس في مكتبه. لم تكن بول مجرّد فارس موهوب استطاع الامبراطور أن يرى موهبته، بل كانت صديقا مقرّبا منه تقضي معه ومع إينو الكثير من الوقت ويتبادل ثلاثتهم مختلف أنواع الأحاديث.
حينما دخلت بوليانا إلى مكتب الامبراطور، كان إينو هناك وقد قال مباشرة “أنت متأخّرة”
نظرت إليه بول ثمّ حوّلت نظرها إلى الامبراطور الّذي ابتسم وقال “لا شكّ أنّه جيرالد صحيح؟”
بينما ردّ إينو قائلا “أنا أيضا لديّ ابن ولا أتأخّر”
“إينو…” قالها الامبراطور بهدوء فتقدّمت بوليانا نحوه وقامت بتحيّته متجاهلة إينو.
سمع الثلاثة طرقا على الباب، ثمّ دخل مساعد الامبراطور. اقترب المساعد وقدّم بعض الأوراق إلى الامبراطور وقال “هل قرّرت من سيرافق التاجر اليوم؟”
“ممم” قلّب لوسيوس الأوراق ثمّ قال “إينو، هل ستثير ضجّة إن جعلتك ترافق دخول التجّار إلى القصر اليوم؟”
“بالطبع” قالها إينو مباشرة فتنهّد الامبراطور بعمق وكذلك فعلت بوليانا الّتي قالت “سأتولّى أنا هذه المهمّة”
في الواقع، كان كلّ من إينو وبوليانا يتناوبان على حراسة الامبراطور، وقد كان دور إينو، لذلك لم يكن ليأخذ مهمّة أخرى سوى حراسة الامبراطور حتّى لو طلب منه الامبراطور ذلك.
“إذن سأعتمد عليك بول” قالها لوسيوس فقالت بوليانا بعفوية “هل هو شخص مهمّ لهذه الدرجة؟”
حينما تدخّل المساعد قائلا “إنّه أحد أنجح التجّار، كما أنّه يقيم علاقات عمل وعلاقات شخصية مع دول لم يسبق لنا التعامل معها”
“فهمت” قالتها بوليانا ثمّ التفتت إلى الامبراطور قائلة “إذن سأراك لاحقا جلالتك”
ابتسم لوسيوس فقال إينو الواقف بجانبه “لا تنسى موعد المبارزة”
ابتسمت بوليانا وقالت “وهل يمكن أن أنسى شيئا كهذا؟”
غادرت بوليانا مكتب الامبراطور بينما واصل الأخير عمله. كان الثلاثة يتبارزون معا في أيّام محدّدة، وقد كانت تلك أفضل الأوقات الّتي يقضونها معا. لازال الأمر كما هو، لوسيوس لا يستطيع التغلّب على إينو، وبوليانا لا تستطيع التغلّب على لوسيوس، أمّا المبارزة بين بوليانا وإينو فهي أشبه بشجار بين شقيقين لا يطيق أحدهما الآخر ظاهريا، بينما يعتزّ كلّ منهما بالآخر في نفسه.
حينما حان وقت دخول التاجر إيريك إلى القصر، كانت بوليانا ومعها بعض الحرّاس بانتظاره. كان إيريك رجلا شابا يملك شعرا فضّيا وعينان عسليتان وبنية جيّدة. كانت ملابسه الفاخرة تدلّ حتما على ثرائه الفاحش. كان على علم بأنّه سيتمّ استقباله من قائد الحرس الامبراطوري.
بمجرّد أن اقترب إيريك وحاشيته من بوليانا ابتسم وقال “لم أكن أتوقّع أن أحصل على شرف لقاء الفارسة المشهورة”
لم تهتمّ بول كثيرا بما قاله، بل مدّت يدها وصافحته قائلة “سنقوم بمرافقتك إلى أن تخرج من القصر الإمبراطوري، أرجو أن تبلّغني إن احتجت لأيّ شيء”
“شكرا جزيلا” قالها إيريك ثمّ بدأ السير جنبا إلى جنب مع بول وهو يحدّق بالقصر. حينما لاحظت بوليانا ذلك قالت “سمعت بأنّك تملك قصرا مطليا بالذهب”
التفت إيريك إليها مستغربا ثمّ ضحك وقال “يبدو أنّ جميع أنواع الشائعات تدور حولي”
“هل هي شائعة إذن؟”
ابتسم إيريك وقال “صحيح بأنّني غنيّ، لكن يبدو لي طلاء القصر بالذهب أمرا سخيفا حقّا”
ابتسمت بوليانا فواصل إيريك قائلا “وحتّى لو كان ذلك صحيحا، لا يمنعني ذلك من الإعجاب بقصر الشخص الّذي استطاع توحيد البلاد”
يبدو بأنّ إيريك يكنّ الإعجاب للإمبراطور، وهذا وحده يكفي لكي يجعل بوليانا مرتاحة معه.
التفت إيريك إلى بوليانا بابتسامة ثمّ قال “إذن هل هو صحيح بأنّ الامبراطور يقوم بتغيير القانون لأجلك أم أنّها شائعة؟”
عبارة إيريك لم تكن موزونة تماما، فهي قد تعني شيئا مختلفا، خاصّة وأنّه قد دار الكثير من الكلام من قبل بأنّ هناك شيئا ما يحدث بين الامبراطور وبوليانا، رغم أنّه لا يراها سوى فارسه الموهوب، وهي لا تراه إلّا ذلك الرجل الّذي اعترف بها.
شعر مساعدا بوليانا بالرعب وهما يعرفان بأنّها قد تغضب ويخرج الأمر عن السيطرة، لكن بوليانا عرفت من ملامح إيريك بأنّه لا يقصد أيّ سوء، بل يسأل لأنّه لا يعرف، ولهذا أجابته بهدوء قائلة “جزء من هذا الكلام صحيح، فالامبراطور يفعل ما يراه صحيحا لأجل مستقبل شعبه”
كانت تلك إجابة ذكيّة جعلت الجميع يهدأ. بدا إيريك غارقا في أفكاره إلى أن وجد نفسه قد وصل بالفعل إلى مكتب الامبراطور، وحينها قالت بول “إذن سأتركك الآن”
شعر إيريك بأنّه يرغب بالتحدّث معها أكثر، لكنّه في القصر الامبراطوري لأجل لقاء الامبراطور وليس لأيّ سبب آخر.
“لحظة” قالها إيريك حينما همّت بول بالمغادرة، وحينما التفتت إليه قال “هل سترافقينني عند خروجي أيضا؟”
“بالتأكيد” قالتها بول بعفوية فابتسم إيريك ابتسامة رضا لم تفهم بول معناها تماما.