ربّما قد فكّرتم من قبل فيما هو المغزى من الصلاة، أو ما هي الحكمة من الصلاة. وإذا بحثتم بحثا أوّليا على غوغل فستجدون أسئلة من هذا النوع على مواقع الإفتاء عبر الأنترنت، مع إجابات لا تسمن ولا تغني من جوع. ولهذا ها أنا أنصحكم ثانية كما فعلت في مقالات سابقة، لا تبحثوا عن أجوبة أسئلتكم الدينية في تلك المواقع، فليست كافية أبدا، بل وتجدونها مضلّلة أحيانا.
سأقدّم لكم في هذا المقال الحكمة من الصلاة ومن تقسيمها في أوقاتها كما نعرفها. وسأعرّفكم فيه أيضا على كيف يمكننا أن نشعر أكثر بقيمة هذه الصلاة في الحياة إذا ما فهمنا بعض المعاني المهمّة فيها.
وأنا أستوحي هذا المقال من كتاب الدكتور ماجد عرسان الكيلاني بعنوان “مناهج التربية الإسلامية والمربون العاملون فيها”، وتجدون مراجعتي لهذا الكتاب من هنا. وأنا أعتبر هذا المفكر كنزا ثمينا قد حفظت كتبه بسبب إعادة قراءتها في كلّ مرّة أحتاج إلى استعادة المفاهيم الصّحيحة عن الدّين والحياة. وأنصحكم بقراءة الجزء الّذي يخصّصه للصّلاة في كتابه، ويبدأ من الصفحة 209.
قد ترغب بقراءة: بعض التأمّلات لتفسير عبارة “نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام” لعمر بن الخطّاب
المغزى من الصلاة بعيدا عن حركاتها وما فيها
حينما ننظر إلى صورة الفاتحة الّتي نردّدها في كلّ ركعة من ركعات كلّ الصلوات، هناك عبارتان يجب أن نقف عندهما. إيّاك نعبد وإيّاك نستعين. ومن خلال هاتين العبارتين يمكننا أن نفهم المغزى الكلّي للصّلاة. فالحياة ممتلئة بالماديات. فأحيانا تكون فيها صاحب العمل فينسب إليك موظّفوك القدرة على إعانتهم من خلال الأجر الّذي يحصلون عليه. وأحيانا تكون موظّفا ترى العون في صاحب العمل وتشعر بأنّ مصيرك مرتبط به بسبب حاجتك للمال.
فخلال هذه الحالات، يتذبذب الإنسان بين ما يسمّيه الدكتور ماجد مرضي الطغيان والاستضعاف. فمثال الموظف وصاحب العمل هو مثال بسيط لما يتعرّض له الإنسان في حياته اليومية، إذ يكون أحيانا في منزلة تجعله يشعر بأنّه صاحب الفضل، وتعجبه نفسه. ويكون أحيانا ضعيفا في موقف ينسب فيه الفضل للآخرين ممّن لهم الفضل عليه.
وفي خضمّ مقارعة الدنيا وما فيها، تأتي الصلاة لتقطع على الإنسان ذلك التفكير الّذي قد يؤدّي به إلى الطغيان فيعتقد بأنّ الفضل في الدنيا يعود له. أو قد يؤدّي به إلى الاستضعاف فيعتقد بأنّ رزقه بيد البشر. لتقول له الصلاة بأنّ الله أكبر، فهو أكبر منك ومن كلّ مخلوق تعتقد بأنّه يملك رزقك. ولتقول له بأن تعبد الله وحده فهو خالقك وخالق من حولك، وأن تستعين بالله وحده، فلو أعانك البشر كلّهم وخذلك الله فلن تحصل على مرادك.
وهنا تأتي الحكمة من تقسيم الصلاة على اليوم كلّه. إذ يبدأ الإنسان حياته مستعينا بالله مصفّيا معتقداته من الطّغيان ومن عبودية البشر. ثمّ يعود إليها في وقت الظهر ليتخلّص ممّا أصابه من طغيان أو استضعاف خلال اليوم، وهكذا دواليك، إلى أن تحين صلاة العشاء، فيعود الإنسان من خلالها إلى صفائه الذهني بأنّ الله أكبر وبأنّه القادر على كلّ شيء، فينام مطمئنّا وهو يعلم بأنّه يستعين بالخالق.
يتلخّص المغزى من الصلاة من خلال آية “والمقيمين الصلاة”
إذا ما نظرنا إلى ما تفعله الصّلاة في حياتنا وهدفها في تصفية عقولنا وأرواحنا من الانحرافات الّتي قد تصيبنا خلال اليوم، نستطيع أن نفهم بأنّ “إقامة الصّلاة” لا تعني مجرّد حركات وتلاوات. بل تعني أن تفعل فيك الصّلاة ما جاءت لأجله. فإن لم تساعدك الصّلاة على التخلّص من انحرافاتك اليومية وشهواتك وطغيانك أو شعورك بالضعف أمام الآخرين، فهذا يعني بأنّك لا تقيمها بالشكل المطلوب.
فبمجرّد أن تسمع المؤذّن وهو يقول لك “أشهد ألّا إله إلّا الله”، عليك أن تتذكّر فورا بأنّك بيد الله، فتنسى تكبّرك وغرورك، وتبتعد عن الضعف والخضوع للآخرين. فتعود إلى حالة التوازن الّتي يجب أن يعيش فيها الإنسان السويّ. وحينما تتوضّأ، فأنت تقوم بنوعين من التطهير، تطهير مادي لكلّ أعضاء جسمك، وتطهير معنوي. فتطهّر يداك من أيّ حرام اقترفتاه، وتطهّر فمك من أيّ حرام تفوّه به، وتطهّر أذناك من أيّ حرام سمعته، وهكذا.
فالأذان يأتي مذكّرا النّاس بألّا تجرّهم الدّنيا والشهوات إلى الغرور أو الخضوع. ثمّ يأتي الوضوء ليجهّزهم جسميا ومعنويا للدّخول في الصلاة مع الله وإعادة شحن الروح لتتابع معركتها في الحياة باتّزان وبقوّة معنوية مرتفعة.
فإقامة الصلاة بأركانها أمر مهمّ. والخشوع في الصّلاة أمر مهمّ. لكن إن لم تفدك الصّلاة في شحن الروح وإعادة التوازن إليها، فهذا يعني بأنّ صلاتك لا تقوم بعملها كما ينبغي.
وهذا الشرح الجميل للدكتور ماجد هو شرح مفيد يستطيع أيّ شخص أن يطبّقه في حياته بسهولة. فبمجرّد سماع وقت الأذان، يستطيع الإنسان أن يبرمج نفسه بأنّ الوقت قد حان ليتخلّص من أيّ غرور يعتليه، أو أيّ خضوع يصيبه. فيستعين بالله وحده، ثمّ يعود للحياة مطمئنّا بأنّ حياته كلّها بيد الله. فيعيش متوازنا لا تتغلّب عليه مصاعب الحياة بسهولة.
الخلاصة
أرجو أن يكون هذا الشرح مفيدا في تجديد فهمنا للصّلاة ومحاولة التفكير فيها بشكل مختلف لنستطيع إقامتها في حياتنا كما ينبغي. ولا يجب أن يتوقّف المسلم، كما قرأت في بعض المواقع، مندهشا لا يعرف حكمة الأمور. بل يمكننا استنباط الحكمة من العبادات إن وجد أشخاص لهم من العلم الكافي ما يستطيعون به فقه شرائع الله. وأن تكون الإجابة على المغزى من الصلاة بأنّها شرع مفروض ويجب علينا إطاعته وكفى، فهذا يعني جمودا لا يحاول فيه صاحب هذه الإجابة البحث قليلا أو التفكير قليلا.
وتماما مثلما هو مهمّ أن نعرف الحكمة المعنوية من الصلاة. من المهمّ أيضا أن نتعرّف على الحكمة العلمية منها. وقد قام بالفعل علماء بدراستها ووجدوا لها الكثير من الفوائد، كما وُجد بأنّ أوقاتها دقيقة تفيد جسم الإنسان.
وهو ليس إلّا دليلا آخر بأنّ الدّين والعلم والعقل أمور لا تتعارض. ومن يقول غير ذلك فهو لا يفقه أحدها. فالدّين حينما يكون صحيحا لا يعارض العلم الصّحيح ولا العقل الصحيح. فالله من خلق لنا هذا العقل وأمرنا بالتفكّر في كلّ ما يحيط بنا. وهو من خلق لنا الوسائل لنستخدمها، وسخّر لنا الأرض وما فيها لنكتشفها ونستفيد منها. وكما قال الدكتور ماجد، العلوم كلّها إسلامية. فالله لم يخلق لنا هذا الكون الفسيح لنتفرّج عليه، بل لنستكشفه ونربطه بما جاء في القرآن. فنزداد يقينا بعظمة الله ونتعرّف أكثر على الحكمة من شرائعه.
قد ترغب بقراءة: نظرة على أسباب عدم إتقان العمل في المجتمع العربي والاستهتار الكبير الّذي يسري فيه