تقليد الآباء والأجداد

لماذا لم يتوقّف تقليد الآباء والأجداد ومشايخ الدين رغم ذمّ القرآن للآبائية؟

أعتبر هذا الموضوع أحد أهمّ العراقيل الّتي أوصلت المجتمعات العربية إلى ما هي عليه من انحطاط وجهل. فتقليد الآباء والأجداد ومشايخ الدين أدّى إلى توّقف مجالات عدّة للحياة قبل عدّة قرون. ورغم أنّ القرآن قد ذمّ الآبائية ووصفها بأنّها أصل تسخيف العقل ورفض الحقّ في مثل قوله تعالى “إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مهتدون”، إلّا أنّ الآبائية لم تتوقّف بل وربّما زادت مع مرور الوقت ومالت بالمجتمعات إلى الحضيض.

سأناقش في هذا المقال خطر الآبائية على المجتمع وعلى العلم وعلى الديّن. ولماذا يجب على المجتمع أن ينخلع من هذه القيود ويتحرّر ليقوم برسالته كما ينبغي. وقد كنت كتبت من قبل مقالا عن الخلط المتعمّد بين الدين والعادات والتقاليد وخطره على المجتمع لمن أراد أن يقرأ المزيد عن هذا الموضوع.

احصل على ثانوية الأشباح

ما هو ضرر تقليد الآباء والأجداد على المجتمع؟

ما ذمّه القرآن في الآبائية كان تقليدا يؤدّي إلى الكفر والخلود في النار. إذ كان المكذّبون برسالة محمد صلى الله عليه وسلّم يحتجّون بأنّهم يتّبعون ما ألفوا آبائهم عليه. وبدا لهم أمرا عظيما أن يغيّروا ما ورثوه من آبائهم وأجدادهم. وهذا الجحد للحقّ فقط لأنّه تمّت دعوتهم إلى دين جديد بمفاهيم جديدة عليهم ليس بالأمر الهيّن. ولهذا كان من المهمّ أن يتحرّروا من الآصار ويحاولوا البحث عن الحقّ فقط. وحينها فقط يمكنهم الاهتداء إلى الدين الصحيح.

ونفس الأمر يتكرّر عبر الزّمن ويتكرّر في عصرنا هذا على درجات مختلفة. وأهمّ نموذج لتقليد الآباء والأجداد يتمثّل في العادات والتقاليد والأعراف الّتي لازالت تحكم مجتمعاتنا. ويمكننا ضرب الكثير من الأمثلة على هذا. فنموذج العرس (الّذي يتّفق الجميع على أنّها نفقات باهظة دون فائدة) لا يمكن أن يتغيّر بأيّ حال من الأحوال، فذلك ما قامت به جدّاتنا ولا يجب أن نخالفهنّ. ونموذج العزاء (الّذي أعرفه في بلدي على الأقلّ) هو نموذج آخر كارثي، لكن يجب القيام به لأنّنا ألفينا آباءنا يفعلونه.

وفي الأسر لا يقوم الطفل الذكر بأيّ واجبات منزلية، بينما تفعل الطفلة ذلك. وذلك لأنّ أباه لا يقوم بذلك فيجب أن يكون رجلا مثله. وفي السعودية لم يستطع المشايخ استساغة قيادة المرأة للسيارة فحرّموها لأنّها تضرّ بحوض المرأة (؟). وذلك لأنّ مجتمعهم انحدر عن مجتمع منغلق يجب ألّا يكون فيه للمرأة أيّ نشاط. لكنّهم قاموا بتحليله لاحقا لأنّ وليّ أمرهم أمرهم بذلك، وتلك حكاية أخرى سيكون لي فيها مقال خاصّ.

ولا يمكن للابن أن يرفض الزواج من ابنة عمّة، فقد تزوّج والده قبله بابنة عمّه. فمن يحمل عبئ العمّ إن لم يكن ابن الأخ. والفتاة لا تستطيع رفض الزواج دون سبب، لأنّ الجدّات يخبرنها أنّ الحياة تتمثّل في الزواج.

ثمّ ننتقل للمدرسة،

إذ لا يجب أن يقوم التلميذ بتصحيح مدرّسه أو مجادلته. وإن فعل ذلك يعتبر تلميذا غير مهذّب. وتظلّ نفس العقلية في الجامعة. إذ يعتبر الأستاذ الجامعي أيّ محاولة لفرض رأي الطلّاب عليه أو مطالبته بتغيير في الأسلوب أو التوقيت إهانة. وذلك لأنّه كبر على فكرة أنّ الابن يجب أن يستمع للأب دون نقاش وإلّا كان عاقّا. وأن يستمع التلميذ لمعلّمه دون نقاش وإلّا كان مشاغبا. وأن يحترم الطالب أستاذه الّذي يتفوّق عليه في العمر والدرجة وإلّا كان قلّة احترام.

قد ترغب بقراءة: قصة الإيغور… المعاناة الصّامتة الّتي استمرّت لسنوات ولازالت

كيف ينطبق تقليد الآباء والأجداد على مشايخ الدين؟

ربّما يكون هذا أسوأ من أثر التقليد على المجتمع. فما أراه حاليا هو عبارة عن إصباغ للعصمة على مشايخ الدين. وكأنّهم لا يخطؤون مطلقا. بل وكأنّ العلم كلّه لهم وحدهم. وليس لنا في هذا العصر سوى تنفيذ ما قالوه وما كتبوه تنفيذا حرفيا دون نقاش. وهي الطامة الكبرى الّتي جعلت الجمود يسيطر على هذه الأمّة.

وقد قدّر الدكتور ماجد الكيلاني، الخبير في علم التربية الإسلامية، بأنّ الجمود بدأ في القرن السادس الهجري. حيث تمّ تصنيف علوم نافعة وأخرى غير نافعة. واقتصرت العلوم النافعة على العلوم الشرعية، بينما صنّفت العلوم التجريبية والاجتماعية والثقافية على أنّها علوم غير نافعة. وهو خطأ كبير لا زال يصدّقه الكثير اليوم. وقد بيّن ماجد عرسان الكيلاني، في كتبه عن أصول التربية الإسلامية، كيف أنّ العلوم كلّها علوم إسلامية. والدليل على ذلك آيات القرآن الّتي تحثّنا على النظر إلى الإبل كيف خلقت، والنظر إلى السماء والشمس وغيرها. فمن العبث أن نرمي اكتشاف هذا الكون الفسيح في خانة العلوم غير النافعة. إذ يعني ذلك بأنّه خلق دون فائدة.

وفي تلك العلوم الشرعية نفسها قد ضرب الجمود فيها فلم تتقدّم مطلقا.

إذ صار يقتصر العلم الشرعي على سرد ما أنجزه مَن قبلنا من شروحات وكتب. ولم تظهر محاولات جادّة لتجديد هذا الدين ومناقشته مع طلّاب العلم واستخراج حلول لقضايا العصر منه. وقد وصل الحال بالبعض إلى تحريم كلّ جديد يخرج في هذا العصر فقط لأنّه لم يتواجد في العصور السابقة. وهو تسخيف كبير للعقل. فكيف يمكن تطبيق قوانين زمن على زمن آخر؟ فشريعة الله هي شريعة للحياة بشكل عام. لكنّ استنباط القوانين منها هو عمل يقوم به الإنسان بعد أن يقرأ ويتفكّر ويتعلّم.

ومن هذا المنطلق أيضا، ناقش الدكتور ماجد الكيلاني كيف أنّ محاولات الإصلاح المختلفة للأمّة الإسلامية انطلاقا من المنظومة التربوية لم تنجح. إذ غالبا ما تكون هذه المحاولات محاولات فارغة تعتمد على الخطاب الحماسي، دون أن توضّح كيف يشارك الراغب في المشاركة في ذلك الإصلاح. أو ينتهي بها الحال إلى سرد ما أنجزه الآباء والأجداد وتحفيظه للناشئة. ما يخرج منهم حفّاظا غير قادرين على المشاركة في الحياة مغتربين عنها.

وعلى المجتمع المسلم أن يتوقّف عن التعامل مع العلوم الشرعية الّتي انحدرت عن السّلف على أنّها قرآن لا يخطئ. بل يجب أن يتمّ تمحيصها في كلّ وقت. فالعالم المسلم يخطئ لأنّه بشر. والعالم المسلم يخرج محتوى يناسب زمنه، لكنّه قد لا يناسب الزمن الّذي يليه. كما يجب أن تكون هناك محاولات جادّة للتجديد ولاستنباط ما يهمّ هذا العصر من القرآن والسنة. لا أن نكتفي بترديد ما ورثناه من السلف بجمود كامل ودون محاولة البحث عن مفاهيم جديدة في هذه الحياة.

خلاصة القول

ما أعرفه ممّا أراه في المجتمع هو مدى صعوبة التحرّر من تقليد الآباء والأجداد ومن الآصار الثقافية بشكل عام. وهي قيود قويّة فعلا لا يمكنني شخصيا أن أفهمها. والتقليد قد يحصل في أمور بسيطة أو كبيرة. وقد يحصل في أسرة دون أسرة أخرى، أو في مجتمع دون مجتمع آخر. لكنّ الأهمّ في الموضوع هو أنّ التقليد والآبائية ليسا بالأمر الجيّد، ولا أعتقد بأنّ هناك أيّ إيجابيات لهما. فحتّى لو أراد المجتمع أن يقلّد فعلا إيجابيا، أو أراد الابن أن يقلّد والده في أمر إيجابي. فيجب أن يكون له شرح وافي وأن يتمّ تبنّي ذلك الفعل بعد فهم سبب إيجابيته. لا أن يكون تقليدا أعمى فقط لأنّ هناك من قام بذلك.

قد ترغب بقراءة: انضمّوا إليّ لتصحيح مفهوم ضرب المرأة في القرآن



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أسماء عابد
أسماء عابد   
أستاذة جامعية حاملة لشهادة دكتوراه في الهندسة الميكانيكية. كاتبة ومدوّنة ومترجمة وباحثة أكاديمية تعشق الكتب والتاريخ والحضارات
تابعونا