منذ أن قرأت كتاب اعترافات قرصان اقتصاد وأنا أحمل في نفسي احتراما كبيرا لبطل بنما عمر توريخوس. وخلال قراءتي الآن للاعترافات الجديدة الّتي جمعها جون بركنز في كتابه الثاني من اعترافات قرصان اقتصاد، أعادتني حكاياته إلى عمر توريخوس، ذلك الرّجل الّذي عاش بطلا ومات بطلا.
قد ترغب بقراءة: التّعريف بكتاب “هكذا ظهر جيل صلاح الدّين وهكذا عادت القدس” لـ ماجد الكيلاني
من هو عمر توريخوس؟
لنعرّف أوّلا ببعض تفاصيل صعود توريخوس إلى سدّة الحكم في بنما. فقد كانت بنما سابقا جزءا من كولومبيا، ولأهمّية موقع قناة بنما، أرادت الولايات المتحدة السيطرة عليها. رفضت طبعا كولومبيا ذلك الطّلب، فأرسلت الولايات المتحدة قوات إلى بنما حيث فصلتها عن كولومبيا وجعلتها دولة مستقلّة، كما سيطرت عليها وعلى إدارة القناة.
أصبحت بنما بمثابة جزء من أمريكا، حيث عاش فيها الأمريكيون حياة فارهة، وحكمتها العائلات البنمية القليلة الّتي استفادت من العيش الرّغيد مقابل ولائها للولايات المتحدة. أمّا الشّعب فقد كان يعيش الفقر والبطالة. وحينها حصل أمر لم يكن بالحسبان. إذ قام الجنرال عمر توريخوس بانقلاب عسكري سنة 1986 برفقة الحرس الوطني. وتولّى بعدها عمر توريخوس قيادة بنما كقائد ثوري لها.
لم يكن انقلاب عمر توريخوس العسكري شبيها بالانقلابات العسكرية الّتي نعرفها في البدان العربية. فقد كان توريخوس رجلا نزيها كلّ همّه هو تحرير بلده من الهيمنة الأمريكية وتحسين الحياة لأبناء شعبه.
فقد تقرّب عمر من المدنيين والفقراء ودخل مناطقهم واستمع إلى شكواهم. كما بدأ بإيجاد حلول للبطالة بل وساعد بعضهم من ماله الخاصّ. وقد استطاع بفضل نزاهته وحبّه لشعبه أن يكسب طبقة قويّة هي طبقة الشّعب، والّذين دعموه وجعلوه بطلا.
لقاء جون بركنز مع عمر توريخوس
جون بركنز هو كاتب كتاب اعترافات قرصان اقتصادي، وهو قاتل اقتصادي يتمّ إرساله إلى الدّول الّتي تريد الولايات المتّحدة إخضاعها تحت سيطرتها. ولهذا كان عمل جون بركنز يتلخّص في إقناع الجنرال توريخوس بخطّته الاقتصادية الّتي، كما يعرّفها بركنز، تقضي بأن تقوم شركات أمريكية بإنشاء محطات كهرباء وطرق وغيرها من هياكل تقوم بتحويل البلد إلى بلد حضاري، مقابل أن يقبل ذلك البلد بأخذ قروض من البنك الدولي. وحينها تصبح تلك القروض بمثابة الذراع الّتي يمكن ليّها في أيّ وقت حينما تحتاج الولايات المتحدة إلى خدمة ما من ذلك البلد.
وتماما كما فعل بركنز مع بلدان أخرى، كان ذهابه إلى بنما ليقوم بنفس الأمر، وذلك لتظلّ بنما في يد الولايات المتحدة إلى الأبد. لكنّ توريخوس كان مختلفا.
فحينما التقى بركنز توريخوس الّذي كان بالفعل مشهورا بين البنميين وبطلا بالنّسبة لهم، عرف بركنز أنّ مهمّته لن تكون سهلة. كما عرف أنّ الكلمات الّتي قرأها تحت صورته في الملصقات المنتشرة في بنما لم تكن مجرّد كلمات فارغة… “الحرّية هي مثال عمر الأعلى.. لم يتمّ بعد اختراع صاروخ قادر على قتل المثل العليا”.
كان الجنرال هو من دعى بركنز إليه ليلتقيه، فقد كان يعلم بما يحمله خلفه من توقّعات. وقد أبدى الجنرال موقفه الصّلب بشأن كونه مدافعا عن حرّية وسيادة بنما على أراضيها، بما في ذلك قناة بنما. وقد كان توريخوس واحدا ممّن تركوا أثرا في نفس جون بركنز وجعلوه يفكّر في خطواته الّتي تؤدّي إلى إيذاء شعوب بأكملها.
رفض توريخوس أن يكون ضحيّة لديون البنك الدّولي كما كانت تسعى الولايات المتّحدة. كما استطاع نزع قناة بنما من أيدي الإدارة الأمريكية بعد مفاوضات أجراها سنة 1977. لكن خطورة توريخوس وعدم نجاح القاتل الاقتصادي لاستمالته جعلت فرقة أخرى تتدخّل، وهي الاستخبارات الأمريكية.
ففي عام 1981، دبّرت الاستخبارات الأمريكية اغتبال توريخوس حيث انفجرت الطّائرة الّتي كانت تقلّه.
كان توريخوس قد توقّع من قبل مقتله بهذه الطّريقة، لكنّه مع ذلك لم يخف ولم يتراجع بل واصل طريقه واستطاع تحرير قناة بنما. وقد كان توريخوس زعيما ذاع صيته بشكل كبير كرجل استطاع الوقوف في وحه الولايات المتحدة دون خوف ودون تراجع.
الخلاصة
ربّما أكثر ما آلمني في هذه القصّة هو كوني لم أسمع من قبل باسم عمر توريخوس قبل قراءتي لكتاب اعترافات قرصان اقتصادي. والحقيقة أنّ تاريخ أمريكا الجنوبية والوسطى مليء بقادة أبطال استطاعوا الوقوف في وجه الولايات المتحدة. وسأقوم بالبحث عنهم جميعا والكتابة عنهم لأنّهم أبطال يستحقّون الإعجاب ويجب حفظ ذكراهم.
وحتّى خلال بحثي عن مواد تساعدني على كتابة هذا المقال، لم أجد الكثير من المقالات عن عمر توريخوس. وهو فعل أمر محيّر. لكن طبعا علينا ألّا ننسى كيف قامت الولايات المتحدة بتشويه صورته من خلال نعته بالدكتاتور لأنّه حلّ الأحزاب السّياسية. والحقيقة أنّها مجرّد سياسة حقيرة للولايات المتحدة تقوم على أساسها بتقريب من ترغب به وتشويه صورة من تخشاه بحجّة الديمقراطية. وسيظلّ توريخوس بطلا ومثالا لبقيّة الثّوريين في العالم للوقوف في وجه الشرّ وعلى رأسه الولايات المتحدة.
قد ترغب بقراءة: أصل اللهجات العربية… نظرة على كيفية نشأة اللهجات العربية الحديثة