حينما يتعلّق الأمر بعدم إتقان العمل في المجتمع العربي، فإنّني أستطيع أن أشكو منه طوال اليوم دون أن أملّ أو أتوقّف عن سرد الأمثلة. فكلّ شيء من حولي يبدو غير متقن. كلّ فرد يحاول الحصول على المنفعة بأيّ وسيلة دون مراعاة ما إذا كان يقوم بدفع المقابل بشكل جيّد أم لا. ورغم أنّ التعميم ليس أمرا جيّدا دوما، لكنّي أراهن على أنّ الغالبية من المجتمع تستهتر في كلّ ما تقوم به، وكلّ ما يهمّها هو المنفعة، ولا يهمّها إن كسبت تلك المنفعة بالغش أو بأيّ طريقة أخرى.
سأناقش في هذا المقال بعض مظاهر عدم إتقان العمل، وسأخصّ أبسط المظاهر مع مقارنة بدول أخرى، وذلك ليفهم القارئ بأنّه أمر مستفحل في مجتمعاتنا، وبأنّه أمر خطير جدّا يجب إيجاد حلّ له. وهو أمر مؤسف بأن يستهتر المسلم، الّذي ينهاه دينه عن الغشّ ويوصيه بإتقان العمل، ويمضي حياته يأخذ فقط دون أن يحاول إتقان دفع المقابل. كما سأناقش أيضا بعض الأسباب المحتملة وراء هذا الفعل.
قد ترغب بقراءة: لنناقش فكرة كون لقاح فيروس كورونا مؤامرة، وأفكار أخرى تتعلق بنظرية المؤامرة
مظاهر ربّما لم تخطر ببالك عن عدم إتقان العمل في المجتمع العربي
لن أذكر لك هنا الغشّ في العمل وكيف أنّ الرادع فقط هو ما يمنع الموظّف من الاستهتار. ولن أذكر لك الغشّ الّذي يطال المؤسّسات والشركات والحكومات. بل هناك مظاهر بسيطة من حولنا تدلّ على أنّ عدم إتقان العمل هي صفة ملازمة في المجتمع العربي.
وأبسط مثال على ذلك هي أعمال الترجمة على الأنترنت. هل شاهدت من قبل فلما مترجما بترجمة رديئة؟ بحيث يتحدّث أحدهم مع امرأة بينما تقول الترجمة “انظر” وليس “انظري”. أجل فذلك ما يحدث عند استخدام ترجمة غوغل دون محاولة لتدقيقها أو الاطّلاع عليها. وأنا واثقة بأنّك لم تشاهد فلما واحدا فقط من هذا النوع، بل كلّها كذلك. فلماذا لا تقوم فرق الترجمة بتقديم عمل متقن؟ في المقابل، حينما أشاهد أعمالا مترجمة من لغات أخرى إلى الإنجليزية، فأنا أجد فيها إتقانا كبيرا وترجمة ذات جودة عالية.
ولكي أقدّم مثالا أبسط، لكيلا يقول لي أحدهم أنّ الترجمات الإنجليزية تقوم بها وكالات متخصّصة. لنذهب إلى المانغا. لو اطّلعت على المانغا المترجمة إلى العربية (والّتي أتجنّبها شخصيا)، لوجدت بأنّ الترجمة كارثية، تماما مثل الأفلام والمسلسلات. لكن لو اطّلعت على ترجمة المانغا من اليابانية والكورية إلى الإنجليزية فستجد إتقانا كبيرا وجودة عالية. وقد ضربت هذا المثال لأنّ الفرق الّتي تقوم بترجمة المانغا إلى الإنجليزية هم عبارة عن طلّاب جامعيين فقط، وغالبا لا يأخذون أيّ مقابل عليها. ومع ذلك يقومون بترجمة محترفة، وبتنظيف للصور، وإعادة الرسم، وشرح أيّ معلومات غامضة. فلماذا لا تكون فرق الترجمة العربية مثلهم؟
من المحزن فعلا بأن تجد الفرق العربية تسعى لتقديم ترجمة وإنزالها من أجل كسب بعض المال من خلال الإعلانات المزعجة على المواقع، دون أن تقدّم حتّى ترجمة ذات جودة عالية يستحقّون أخذ مقابل عليها. وهذا هو تماما ما قصدته بقولي بأنّ المجتمع العربي يرغب في الحصول على المنفعة بأيّ وسيلة، ولا يهمّه إن كان المقابل متقنا أم لا.
ويصعب فهم هذه العقلية أو تفسيرها لأنّها بالفعل أمر مستفحل.
فهذه مجرّد مظاهر بسيطة قريبة منّا جميعا، لذلك هي تعبّر عن هذا الموضوع بشكل جيّد. لكنّها تظهر بأنّه من لا يتقن مجرّد القيام بترجمة ويقبل أن يربح مقابلا لذلك المحتوى الرديء، فسيقوم باستيراد مواد بناء بجودة رديئة ليكسب المال من خلفها، وسيقوم باستيراد مبيدات حشرية مسرطنة ومواد غذائية مسرطنة. وهكذا.
فمن لا يملك لا الوازع الديني ليتقن عمله، ولا الضمير الإنساني ليفعل ذلك، فسيفعل أيّ شيء ليحصل على المنفعة. وإذا ما قمنا بإسقاط هذا على المجتمعات العربية، فسنفهم لماذا تحيط المشاكل بنا من كلّ جانب، ولماذا لا نتقدّم خطوة إلى الأمام.
وقد يقول لي أحدهم بأنّه هناك حتما أشخاص من تلك الدول الّتي أقارن بها يغشّون، وهناك شركات تفعل ذلك. والإجابة على هذا واضحة، فهذه الحالات عندهم هي الأمر غير المعتاد، والعمل المتقن هو الأمر المعتاد عندهم. بينما يحصل لدينا العكس. فالحالة النادرة هي أن تجد شخصا أو شركة مستقيمة.
ما هو سبب عدم إتقان العمل في المجتمع العربي؟
محاولة البحث عن السّبب لهذه الظاهرة هي محاولة شخصية. فأنا أعتقد بأنّ الأمر يعود إلى نظام التعليم في البلاد. فالتعليم عندنا لا يعلّم الطلّاب إتقان العمل ولا يحاسبهم عليه، بل يطلب منهم إنجاز العمل فقط ويكافئهم على ذلك. وبحكم أنّني قد قمتُ بالتدريس في الجامعة فأنا أجزم بأنّ مستقبل البلاد في خطر إن توالت الأجيال على هذه الشاكلة. فهم لا يهتمّون مطلقا بإتقان العمل، ينقلون ما يجدونه على الأنترنت في إنجاز أيّ واجب منزلي ولا أحد يحاسبهم. مع العلم بأنّ عقوبة الاستيلاء على محتوى من الأنترنت ونسبه للنفس تصل إلى الفصل في الجامعات المحترمة.
فتجاوز المراحل التعليمية بسهولة ودون محاسبة على الاستهتار تجعل الشاب يتبنّى نفس العقلية في الحياة. ولهذا يبدأ بإنجاز الأعمال بأسهل طريقة دون مراعاة الإتقان، وينتظر مقابلا عليها دون أن يفكّر في مشروعية ذلك المقابل. تماما كما حصل على شهادته الجامعية وهو قد أمضى سنواتها يغشّ في الامتحانات والتقييمات. وهو ما يؤدّي إلى تقديمه جودة عمل رديئة بأسهل طريقة ممكنة، ما لم يكن هناك رادع حتما. ففي تلك الحالة سيكون مضطرّا لإتقان العمل وإلّا خسره.
وبهذه الطريقة يستفحل استهتاره في كلّ المجالات. سواء أراد القيام بترجمة فيستخدم ترجمة غوغل دون تفقّدها ليحصل على مكسب سهل دون جهد. أو أراد استيراد مواد غذائية فيتجه إلى أسوأ المورّدين لسهولة المعاملات وقلّة سعرها، غير مهتمّ بجودة ما يجلبه.
الخلاصة
كان هذا مجرّد نقاش لرأيي الشخصي في قضيّة عدم إتقان العمل والّتي تزعجني كثيرا. وحينما أرى بأنّ نظام التعليم في بلدي لا يبذل أيّ مجهود للإصلاح ولإيقاف المهازل الّتي تحصل في مؤسّسات التعليم، فأنا أدرك أكثر بأنّها سياسة تنتهجها جهات معيّنة بغرض تجهيل الشعوب العربية وإبقائها في الحضيض دوما.
ونحن نعرف طبعا بأنّ أنظمة التعليم عندنا مستوردة، إذ لم تحصل أيّ دراسة محلّية لاستخراج نظام تعليمي يناسبنا. كما أنّ تطبيق هذه الأنظمة المستوردة هو سطحي فقط. ولهذا تظلّ الجامعات العربية تتذيّل ترتيب الجامعات لأنّها تخرج جيلا جاهلا أكثر ممّا كان عليه قبل دخولها.
قد ترغب بقراءة: لماذا أصبحت كافرة بأنظمة التعليم الفاشلة في هذا العالم؟