توقّفنا في المقال السّابق عند انهيار المهدية وقرار بريطانيا استعادة السّودان. وسنتحدّث اليوم عن فترة الحكم الثنائي للسودان ، وهو الحكم الانجليزي المصري عليها، والّذي استمرّ منذ سنة 1899 إلى سنة 1956.
بعد أن تمّ توقيع اتّفاقية الحكم الثّنائي بين بريطانيا ومصر سنة 1899، تمّ إعلان خضوع السّودان لحكم الدّولتين ورفع علم كلّ من الدّولتين. لكنّ الواقع يدلّ على أنّ المسيطر الوحيد كان الحكم البريطاني، فمصر بدورها لم تكن إلّا مستعمرة لبريطانيا.
عرف السّودان خلال هذه الفترة نهضة عمرانية واجتماعية واقتصادية، لكنّ ذلك لم يكن لأجل مصلحة البلد بل لأجل مصلحة بريطانيا الّتي استخدمت السودان لسدّ حاجياتها الاقتصادية. وأهمّ تلك الحاجيات زراعة القطن الّتي جعلتها الأمر الأساسي في السّودان.
كانت تعلم بريطانيا مدى تعلّق السّودانيين بالدّين الإسلامي، ولذلك كانت تضيّق على من تبقّى من أتباع المهدية خشية التفاف الشّعب حولها ثانية وقيامها بثورة ضدّه.
لكن أهمّ نهج انتهجته بريطانيا لتضمن عدم ثورة السّودان ولتبعد عنها شبح ثورة إسلامية كان بأن فصلت جنوب السّودان عن شماله بأساليب خفيّة زادت حدّتها مع الوقت إلى أن جعلت الفجوة بينهما كبيرة جدّا يصعب رتقها. وقد كانت أفعال بريطانيا في تلك الفترة الأساس لما حصل في السّودان بعد الاستقلال من انشقاق بين الشّمال والجنوب، والّذي انتهى بانفصال الجنوب كدولة مستقلّة.
قد ترغب بقراءة: تجربتي مع إنشاء موقع على ووردبريس (1)
الحكم الثنائي للسودان خلال فترة 1899 إلى 1919
اتّخذت بريطانيا سياسة الفصل بين جنوب السّودان وشماله منذ البداية، فلم تعامل القسمين بنفس الطّريقة. حيث منحت الشّمال العناية وحرصت على إعماره. بينما لم يحصل الجنوب على نفس تلك المعاملة. وقد كانت حجّة بريطانيا في ذلك بأنّ الجنوب بحاجة للمزيد من الوقت لتطوير الحياة البدائية فيه، ويحتاج للحماية من تجارة الرّقيق أكثر من أيّ شيء آخر.
وقد منحت بريطانيا المبشّرين حرّية كاملة للعمل في جنوب السّودان. حيث لم تقتصر مهمّتهم على عمليات التّعليم أو العلاج، بل امتدّت إلى تنصير الجنوبيين وتشويه الإسلام في نظرهم.
من الجدير بالذّكر بأنّ عمل المبشّرين في الجنوب بدأ منذ فترة طويلة، وذلك منذ 1848. وقد أوحوا إلى الجنوبيين بأنّ الرقّ هو جريمة الشّماليين فقط. رغم أنّ تجارة الرقّ شارك فيها أطراف عدّة وغضّت بريطانيا الطّرف عنها. ولا شكّ أنّ فكرة أنّ الشّمال المسلم يرغب في استرقاق الجنوبيين هي فكرة زادت من كره الجنوبيين للشّماليين، كما جعلتهم يخافون الإسلام ويبتعدون عنه.
سعت بريطانيا أيضا في تلك الفترة إلى التخلّص من الوجود العربي في الجنوب. وقد كان هذا الوجود عبارة عن الجنود السّودانيين أو التجّار. ففي 1911، بدأ حاكم منجالا، إحدى مديريات الجنوب، بتشكيل ما سمّي بالفرقة الاستوائية من خلال تجنيد الجنوبيين. وبحلول عام 1917، تمّ إجلاء القوّات الشّمالية كلّها من الجنوب. كما تمّ أيضا منع تواجد التجّار الشّماليين في الجنوب، وسمّاهم مديرو المديريات الجنوبية، من البريطانيين طبعا، بالمتعصّبين.
الحكم الثنائي للسودان خلال فترة 1919 إلى 1946
قامت الثّورة المصرية سنة 1919، وهو ما جعل بريطانيا تتخوّف من تأثّر السّودان بهذه الثّورة. ولأجل التّقليل من ذلك الخطر، عمدت بريطانيا إلى الفصل النّهائي بين الشّمال والجنوب، وذلك ليكون بعيدا عن تأثير إسلامي يكون سببا لاشتعال ثورة في ربوع السّودان.
ولإنجاح ذلك، قامت بريطانيا بجعل مختلف الموظّفين في الجنوب إمّا من الجنوبيين أو من المصريين الأقباط، وذلك لاستبعاد الوجود الإسلامي. كما تمّ منع الجنوبيين المسلمين من تقلّد أيّ وظائف حكومية.
وحينما تمّ لها ذلك، أصدرت قانون الجوازات سنة 1922. وهو قانون يعتبر المديريات الجنوبية مناطق مقفلة لا يُسمح للمسلمين بدخولها. كما تمّ استحداث نظام التّصاريح، والّذي أصبح بموجبه ممنوعا على الأجانب دخول جنوب السّودان، إلّا لمن يحصل على تصريح. كما تمّ أيضا منع هجرة الجنوبيين إلى الشّمال لأجل العمل. وعلى إثر كلّ تلك التحوّلات، جعلت اللّغة الانجلزية لغة رسمية في جنوب السّودان، ويوم الأحد يوم عطلة بدل يوم الجمعة.
أمّا بالنسبة للتّجارة، فقد سمح للتجّار من اليونان وسوريا ولبنان بالمتاجرة مع الجنوب، وذلك بعد منع التجّار الشّماليين من ذلك.
وقد صدرت عدّة مذّكرات بين حكّام المديريات وحاكم السّودان تفيد بأنّ اللّغة العربية خطيرة لأنّها ستؤدّي إلى انتشار الإسلام في الجنوب. حيث قالت إحداها بأنّها قد “تضيف للشمال المتعصّب منطقة لا تقلّ عنه مساحة”. كما ذكرت مذكّرة بأنّ الزّنوج في الجنوب على استعداد للاندماج في حكومات أفريقية أخرى.
وعلى إثر كلّ تلك المخاوف من اللّغة العربية ومن الإسلام، تمثّلت سياسات بريطانيا في تلك الفترة فيما يلي:
- فرض التّعليم باللّهجات المحلّية والانجليزية، وجعل لغة المكاتبات الرّسمية هي الإنجليزية.
- إرسال أبناء الجنوب إلى أوغندا للدّراسة الجامعية بدل الخرطوم.
- حثّ الجنوبيين على الاحتفاظ بأسمائهم القبلية، ورفض تسجيل أيّ مواطن باسم عربي.
- تشجيع العادات والتّقاليد القبلية واستبدال القوانين بالعرف، ومحاربة العادات الشّمالية.
- محاربة الأزياء العربية وتشجيع العري.
- تعليم الموظّفين البريطانيين معتقدات وعادات ولهجات القبائل الّتي يديرونها.
الحكم الثنائي للسودان خلال فترة 1946 إلى 1956
نتجت عن سياسات بريطانيا تلك جنوب متخلّف لم يتحقّق فيه شيء مقارنة بالشّمال. وبعد الحرب العالمية الثّانية، بدأت بريطانيا، كغيرها من الدّول، التّفكير في سياسة استعمارية جديدة لا تكبّدها الكثير من المال والجهد. ولذلك مالت بريطانيا إلى منح السّودان استقلاله، خاصّة مع تصاعد حركات وطنية انتقدت ما حصل في الجنوب وانتقدت فصل الجنوب عن الشّمال.
وقد نجحت بريطانيا كغيرها من الدّول الإستعمارية في جعل الدّول المستعمَرة تابعة لها إلى يومنا هذا. وذلك من خلال الظّروف الاقتصادية الّتي تجعل هذه الدّول متربطة بالمستعمِر لعدم قدرتها على تسيير ذلك دونه.
بدأ السّودانيون بانتقاد السّياسات البريطانية اتّجاه الجنوب. ومن ذلك مؤتمر الخرّيجين الّذي قدّم إلى حكومة السّودان مذكّرة تقضي بإلغاء نظام المناطق المقفلة، وذلك سنة 1942. وكذا لجنة السودنة الّتي فضحت أوضاع الجنوب وقامت بانتقاد السّياسة البريطانية، وذلك بعد أن أرسلت لجنة لدراسة الحال في الجنوب.
وعلى إثر كلّ هذه التغيّرات، عقدت الحكومة السّودانية مؤتمرا في مدينة جوبا سنة 1947. حيث حضره السكرتير الإداري ومديري المديريات الجنوبية وبعض من زعماء القبائل الجنوبية ومن خرّيجي المدارس التّبشرية في الجنوب، وكذا أعضاء من الشّمال. وقد خرج المؤتمر برغبة الجنوبيين في الاتّحاد مع الشّماليين.
وهكذا بدأت المحاولات للرّبط بين الشمال والجنوب. من بين ذلك تشجيع التّجارة وربط المواصلات وتوحيد التّعليم. وكذا جعل جامعة الخرطوم وجهة لطلّاب الجنوب بدل الجامعة في أوغندا.
الحركات الثّورية والوطنية في السودان
بطبيعة الحال لم يخضع السّودانيون للاستعمار البريطاني دون محاولة للتخلّص منه. فقد قامت حركات ثورية ووطنية ضدّه.
فالحقيقة أنّ بريطانيا لم تستطع فرض سيطرتها الكاملة على السّودان إلّا بعد 19 عاما. فقد قامت القبائل في جنوب السّودان وجنوب كردفان وأواسط السّودان بالتمرّد عليها. كما لم تتمّ السّيطرة على دارفور إلى سنة 1916، وذلك بعد هزيمة حاكمها علي دينار. وقد قامت حركة تمرّد للقوّات السّودانية عام 1900، بسبب شعور الضبّاط والجنود السّودانيين بالظّلم.
من أقوى الثّورات الّتي قامت كانت تلك الّتي دعت إليها جمعية اللّواء الأبيض الّتي تأسّست سنة 1924 بقيادة الملازم أوّل علي عبد اللّطيف. وقد قامت على إثر الثّورة المصرية ونظّمت مظاهرات في السّودان وهتافات داعمة لطلب مصر الاستقلال لها وللسّودان. لكنّ بريطانيا استطاعت تتبّع قادة الجمعية والقبض عليها وإخماد نشاط الجمعية.
ثمّ تأسّست حركات وطنية أخرى مطالبة بالتحرّر من بريطانيا. منها مؤتمر الخرّيجين العام، وقد تأسّس سنة 1937 بقيادة اسماعيل الأزهري. والّذي أصبح لاحقا حزب الأشقّاء الّذي يطالب بالتوحّد مع مصر. وحزب الأمّة بقيادة عبد الرحمن المهدي، والذي يدعو إلى استقلال السّودان. وغيرها من الحركات والأحزاب الّتي التفّ حولها الشّعب والقبائل. فكان منهم من يريد استقلال السّودان، ومنهم من يريد توحيد السّودان مع مصر.
وقد تلى كلّ ذلك مظاهرات عمّت السّودان تطالب بالاستقلال من البريطانيين. وقد أسفرت هذه المظاهرات عن كثير من الإصلاحات من قبل بريطانيا، منها إدخال اللّغة العربية جميع مدارس السّودان، وإرسال طلّاب الجنوب إلى جامعة غوردن في الخرطوم.
الخلاصة
صحيح أنّ السّودانيين استطاعوا افتكاك الاستقلال في النّهاية، وبسودان موحّد. لكنّ مشكلة الفصل الّتي انتهجتها بريطانيا لسنوات تركت آثارا لم يكن سهلا التخلّص منها. وهي ما أدّت في نهاية المطاف إلى الاضطرابات في السّودان، ثمّ انفصال جنوب السّودان.
سنواصل في المقال القادم سرد ما يلي من قصّة السّودان. وسيخصّ تفاصيل استقلال السّودان وكيف بدأت الاضطرابات سريعا فيه.
قد ترغب بقراءة: لماذا يستغرق تطوير لقاح فيروس كورونا كوفيد 19 وقتا طويلا؟
المصادر
شاكر، محمود، السودان، المكتب الإسلامي، بيروت، الطّبعة الثانية، 1981.
حسين، عبد الله، السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية، الجزء الثاني، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.