سأتحدّث قليلا في هذا المقال عن إحدى أقوى القادة في العالم، والّتي سيتمّ تخليدها لتكون أحد أبطال التاريخ، أنجيلا ميركل الملقّبة بالمرأة الحديدية. ليست المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رقما عاديا في المعادلات السياسية والاقتصادية، وليست قائدا عاديا أيضا. فلا البيئة الّتي بدأت فيها عملها كانت بيئة خصبة. ولا الأحداث الّتي مرّت بها ألمانيا كانت بسيطة. لكنّ أنجيلا ميركل استطاعت تجاوز الكثير من العقبات لتجعل ألمانيا الدولة القويّة الّتي يُحسب لها ألف حساب اليوم.
من هي أنجيلا ميركل؟
ولدت أنجيلا ميركل في ألمانيا الشرقية، حينما كان جدار برلين يفصل بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية. وقد كانت ألمانيا الشرقية الجزء الأفقر في البلاد. لم تبدأ ميركل حياتها في السياسة، بل لم تفكّر فيها أصلا. فقد كانت أنجيلا عالمة كيمياء. إذ حصلت على شهادة الدكتوراه في الكيمياء الطبيعية. وعملت كخبيرة كيميائية.
لطالما كانت أنجيلا ميركل طالبة متفوّقة. وقد تميّزت بذكاء حادّ سواء في مجالها العلمي، أو في مجال السياسة الّذي دخلته لاحقا.
كان سقوط جدار برلين فرصة لميركل لتنظر إلى الأفق. حيث دخلت عالم السياسة بانضمامها إلى الحزب المسيحي الديمقراطي عام 1989. وقد جعلها ذلك تدخل البرلمان في أوّل انتخابات تشريعية بعد توحّد ألمانيا. لتتقلّد بعدها مناصب وزارية.
استطاعت أنجيلا أن تصعد في الحزب المسيحي الديمقراطي إلى أن أصبحت رئيسة الحزب عام 2000. وبهذا ترشّحت لقيادة ألمانيا من خلال منصب المستشار، والّذي حصلت عليه عام 2005. وبسبب نجاحاتها المستمرّة في قيادة ألمانيا، أعيد انتخابها في عام 2009، ثمّ في عام 2013، ثمّ في عام 2017.
تُعتبر أنجيلا ميركل شخصا متديّنا. أضف إلى ذلك خلفيتها العلمية وهدوؤها واتزّانها في اتخاذ القرارات. كلّ ذلك جعل منها قائدا فذّا لا يبحث عن المنفعة الشخصية، بل يريد أن يحكم بطريقة سليمة.
قد ترغب بقراءة: بطل بنما عمر توريخوس
بعض من إنجازات أنجيلا ميركل
استطاعت أنجيلا ميركل أن تجعل ألمانيا أقوى دولة في أوروبا سياسيا واقتصاديا. فقد ركّزت على كلا الجانبين بحذر شديد لتصل إلى هدفها. وقد استطاعت تحديد الحدّ الأدنى للأجور، ما أنقذ المناطق الأكثر فقرا في ألمانيا الشرقية. واستطاعت أن تخفّض البطالة من حوالي 12 بالمئة عام 2005 إلى 4.9 بالمئة عام 2018.
لم تخش أنجيلا يوما من اتخاذ القرارات الجريئة حينما تعلم بأنّها في صالح بلادها. فقد قامت بغلق فوري لعشر مفاعلات نووية في البلاد بعد كارثة المفاعل النووي في فوكوشيما في اليابان. وعملت بعد ذلك على تعزيز الطاقات المتجددة، إلى أن أصبحت تمثّل 85 بالمئة من إجمالي مصادر الطاقة في البلاد.
ألغت أنجيلا ميركل التجنيد الإجباري عام 2011، وذلك بعد معارضة شديدة تلقّتها. وقد كان غرضها من ذلك تكوين جيش احترافي. كما قامت بتشجيع الإنجاب في ألمانيا من خلال إجازات أمومة مدفوعة الأجر تصل إلى 14 شهرا لا تحصل عليها الأم فقط، بل يمكن للأب أن يحصل عليها أيضا.
وقد جعلت سياسات ميركل الحكيمة من اقتصاد ألمانيا الأوّل أوروبيا، والرابع عالميا. كما استطاعت إنقاذ أوروبا من أزمة اليورو الّتي خنقتها عام 2008، وذلك من خلال سياسات جريئة لاقت على إثرها معارضة واتهامات بأنّها تحاول غزو أوروبا اقتصاديا.
أطلق الألمان على أنجيلا لقب “ماما” لجهودها الكبيرة في جعل ألمانيا دولة قويّة في كلّ المجالات. وقد شاركهم السوريون بعد ذلك في مناداتها بهذا اللّقب.
ميركل واللّاجئون
من ضمن أهمّ ما قامت به أنجيلا ميركل كقائد مختلف كثيرا عن البقيّة هو إعلانها عن سياسة الباب المفتوح أمام اللّاجئين عام 2015. وقد دخل على إثر ذلك حوالي المليون ونصف المليون لاجئ إلى ألمانيا، أغلبهم من السوريين.
تلقّت ميركل على إثر ذلك موجة غضب واعتراضات كثيرة من حزبها ومن الألمان ومن الدول المجاورة. لكنّها مع ذلك لم تتراجع، وقد قالت في ذلك “إذا ما فشلت أوروبا في قضيّة اللّاجئين، فإنّها لن تكون أوروبا الّتي تمنّينا رؤيتها”.
وقد جعلها موقفها ذاك أكثر شعبية في الشرق الأوسط، خاصّة بين السوريين، لأنّها لم تدر ظهرها لهم بل استقبلتهم واهتمّت بقضيّتهم.
أدّت تلك السياسة إلى تنحّي أنجيلا ميركل عن رئاسة الحزب المسيحي الديمقراطي سنة 2018، كما قرّرت أنّها ستترك منصب المستشار سنة 2021، إذ أعلنت بأنّها لن تترشّح لولاية خامسة. وذلك على إثر اعتداءات جنسية قام بها المهاجرون القادمون إلى ألمانيا، وهجمات إرهابية أخرى، ما جعل شعبيتها وشعبية حزبها تنخفض في ألمانيا.
لكن بالعودة إلى الوضع الحالي وطريقة تعامل أنجيلا ميركل مع جائحة كورونا، يبدو بأنّ شعبيتها ترتفع من جديد ليس في ألمانيا فحسب، بل في عدّة دول أوروبية. فقد استطاعت ميركل أن تتابع الوضع باتزان وأن تتخذ قرارات حاسمة لإنقاذ شعبها من مصير دول أخرى تغلّب عليها الفيروس.
قد ترغب بقراءة: انخفاض معدل وفيات كورونا في ألمانيا… إليك أسباب ذلك
الخلاصة
بعيدا عن السياسة والاقتصاد وكلّ ما أنجزته المرأة الحديدية فيهما. ميركل تختلف عن القادة حتى في حياتها. فهي لا تقوم بإغلاق الطرق خلال مرورها، ولا تسكن أيّ قصر من نوع خاص. بل وتخرج للتسوّق بشكل عادي لتشتري أغراضها.
أنجيلا ميركل هي شخص لا يمتلك الذكاء والحكمة فقط، بل تملك عقلية حازمة تخبرها بأنّها قائد لخدمة الناس، ولهذا لا تستغلّ منصبها بأيّ شكل من الأشكال لمصالحها الخاصّة. وهي فعلا قدوة لكلّ قائد يحلم بالنجاح.
ستكون ألمانيا على موعد مع اختيار مستشار جديد في انتخابات 26 سبتمبر من هذا العام. ولن يكون سهلا حتما الاعتياد على ألمانيا دون ميركل بعد حكم دام 15 عاما.
المصادر
https://www.forbes.com/profile/angela-merkel/?sh=35582cb522dd
https://www.bbc.com/news/world-europe-46016377
https://www.pewresearch.org/fact-tank/2020/10/02/confidence-in-merkel-is-at-all-time-high-in-several-countries-during-her-last-full-year-in-office/