لا شكّ أنّ تاريخ الدّولة العثمانية مملوء بالأكاذيب، وليس تاريخ السلطان عبد الحميد الثاني فقط. وهي ليست حتّى أكاذيبا معتمدة على حجج وبراهين. بل مجرّد شائعات يصدّقها الشّعب فيرى أنّ الدّولة العثمانية كانت احتلالا، وأنّ تقسيم الغرب للمنطقة العربية كان تحريرا!
يتناول هذا المقال والمقال الّذي يليه قصّة السّلطان عبد الحميد وأهمّ المحطّات في حياته على رأس الدّولة العثمانية، إلى أن تمّ عزله منها ظلما. وهذان المقالان هما جمع لأهمّ ما جاء في كتاب الدكتور علي الصلابي بعنوان “السلطان عبد الحميد الثاني وفكرة الجامعة الإسلامية وأسباب زوال الخلافة العثمانية”.
السلطان عبد الحميد الثاني
تولّى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة سنة 1876، وقد كانت الدّولة العثمانية في ذلك الوقت تعاني من مشاكل كثيرة.
فأوّلا كانت الدّولة مثقلة بالدّيون، وهو ما جعل الأعداء يعوّلون على ضعف الدّولة وعدم قدرتها على تسديد ديونها ليحصلوا على ما يريدونه.
وثانيا كان المثقّفون من العثمانيين قد تأثّروا بالفكر الغربي الوافد إليهم، فأصبحوا يبحثون عن دولة تشبه دول الغرب وعن سياسات تشبه سياسات تلك الدّول.
وثالثا كان الوزراء ورجال القصر قليلو الولاء للدّولة بسبب خضوعهم بسهولة لإغراء الدّول الأوروبية، وهو ما سبّب مشاكل للسّلطان ولم يعد بإمكانه الثّقة بهم. وهؤلاء الوزراء بدورهم كانوا، بسبب تأثّرهم بالفكر الغربي، قوّة ضاغطة على السّلطان. حيث كان تفكيرهم يختلف كثيرا عن تفكير السّلطان عبد الحميد الثاني.
لكثرة الضّغط الّذي تعرّض له السلطان عبد الحميد الثاني، وافق على العمل بالدستور كما أراد وزراءه، على رأسهم الصّدر الأعظم مدحت باشا. وأجريت على إثر ذلك انتخابات هي الأولى من نوعها في عهد الدّولة العثمانية وتمّ تمثيل كلّ من المسلمين والنّصارى واليهود بمقاعد في البرلمان.
لكن وبعد حصول مشاكل في مجلس النوّاب واتّهامات داخله، قام السّلطان بتعطيل العمل بالدّستور بشكل نهائي. وقد كانت تلك فرصة مناسبة كان بانتظارها. فالسّلطان عبد الحميد الثاني لم يكن يرفض الدّستور لأنّه يحبّ الاستبداد، بل كان يرفضه ويرفض فكرة الدّيمقراطية لأنّها أفكار غربية لا تتلاءم مع الدولة العثمانية الّتي تضمّ شعوبا وأعراقا كثيرة. وتلك الأفكار من شأنها أن تدمّر وحدة الدّولة.
كان السّلطان يرفض أيضا تلك الأفكار الغريبة كأن يقوم بتعيين ولاة نصارى على ولايات أغلب سكّانها من المسلمين. أو أن يقبل بأن يدرس طلبة نصارى في الكلّية الحربية العثمانية. وقد كان يرفض التّوقيع على مثل هذه القرارات، بينما يحاول مدحت باشا إرغامه عليها لأنّ الدّستور يعني ألّا تكون السّلطة للسّلطان وحده.
فبينما كان مدحت باشا وغيره يعتقدون أنّهم يسيرون بالدّولة إلى الحرّية والمساواة، كان السّلطان عبد الحميد الثاني يعرف أنّ الحفاظ على الدّولة العثمانية يعني الحفاظ على الدّين الإسلامي دينا لها.
تصدّي السلطان عبد الحميد الثاني للثّورات والتدخّل الغربي
بدأت في عهد السّلطان عبد الحميد الثّاني ثورات متتابعة في مناطق مثل البلقان والبلغار. وقد قامت الدّول الأوروبية مثل النّمسا وروسيا بدعم تلك الثورات، بل وطالبت الدّولة العثمانية أن تمنح تلك المناطق استقلالا ذاتبا. والحقيقة أنّ تلك الدّول كانت تسعى من جهة إلى الإنقاص من النّفوذ العثماني داخل أوروبا، كما كانت تسعى لتفتيت الدّولة والاستيلاء والتوسّع على حساب تلك المناطق.
كان السّلطان بدوره يشعر بتلك المحاولة للتدخّل الأجنبي في شؤون الدّولة، وقد قام لأجل ذلك بتأسيس جهاز مخابرات ليأمن شرّ الوزراء داخل القصر ويعرف ما يدبّرون له.
بعد أن فشلت محاولات التدخّل، قرّرت روسيا إعلان الحرب على الدّولة العثمانية. وقد قامت على إثر ذلك ما يعرف بالحرب الرّوسية العثمانية. كادت روسيا أن تتغلّب على العثمانيين بعد معارك عدّة. وآخر ما حصل هو اقترابها من إسطنبول والتّهديد بدخولها، ممّا جعل العثمانيين يخضعون للمفاوضات معها.
نتجت عن تلك المفاوضات معاهدة سان ستيفانو في سنة 1878. وقد حملت هذه المعاهدة أضرارا كبيرة على الدّولة العثمانية. وكمحاولة للتّقليل من تلك الأضرار، حاول السّلطان عبد الحميد الثّاني أن يقترب من البريطانيين، خاصّة أنّ الدّول الأوروبية لم تكن موافقة على معاهدة سان ستيفانو لما فيها من ميزات حصرية لروسيا.
من بين ما جاء في معاهدة سان ستيفانو، نذكر:
– استقلال إمارات الجبل الأسود والصّرب. واستقلال بلغاريا استقلالا ذاتيا. وكذا حصول رومانيا على الاستقلال.
– دفع الدّولة العثمانية غرامة حربية لروسيا، ويمكن لروسيا أن تأخذها على شكل أراضي.
– إبقاء مضيقي البسفور والدردنيل مفتوحان أمام السّفن الرّوسية في الحرب والسّلم.
فكرة الجامعة الإسلامية
عمل السّلطان عبد الحميد الثّاني على فكرة إنشاء الجامعة الإسلامية لكي يجمع شمل المسلمين وينقذ الدّولة من الانهيار. وقد لقيت دعوته تلك ترحيبا من علماء كثر مثل جمال الدّين الأفغاني ومصطفى كمال من مصر وأبي الهدى الصيادي من سوريا وعبد الرّشيد إبراهيم من سيبيريا والحركة السنوسية في ليبيا.
كان السّلطان يرى ما يحصل في مصر من افتتان العقول بالفكر الإنجليزي ويخشى عواقبه. فقد أصبح المثقّفون في مصر مولعين بفكرة القومية ونسوا أنّ الدّين هو ما يوحّد الدّولة. وقد كان السّلطان على علم تامّ بأنّ أكثر ما يخشاه ويعيق أعداءه هو فكرة الخلافة وفكرة الوحدة الدّينية الّتي تجعل الدّولة العثمانية قويّة رغم كلّ ما كان يحيط بها. ولذلك عملت الدّول الغربية على محاولة تفتيت الدّولة من الدّاخل بدءا بنشر أفكار القومية والعرقية وسط الشّعوب.
وقد قال المؤرّخ آرنولد تويني عن تحرّكات السّلطان عبد الحميد الثاني: “إنّ السلطان عبد الحميد كان يهدف من سياسته الإسلامية توحيد مسلمي العالم تحت راية واحدة، وهذا لا يعني إلّا هجمة مضادة يقوم بها المسلمون ضدّ هجمة العالم الغربي الّتي استهدفت عالم المسلمين”.
في تلك الفترة كانت بريطانيا قد احتلّت مصر، وفرنسا كانت قد احتلّت تونس. وقد ساعدت الجامعة الإسلامية من خلال اتّصالاتها مع فرعها في شمال أفريقيا أن تنسّق بين الجماعات الدّينية هناك لمقاومة الاحتلال الفرنسي.
وقد قالت المخابرات الفرنسية عن الجامعة الإسلامية: “ويمكن للسّلطان عبد الحميد، بصفته رئيسا للجامعة الإسلامية، أن يجمع من خلال ارتباطاته الوثيقة بالجماعات الدّينية في شمال أفريقيا جيشا منظّما يتمكّن، إذا لزم الأمر، أن يقاوم به أيّ قوّة أجنبية”.
خط سكة حديد الحجاز
إضافة إلى مشروع الجامعة الإسلامية، قرّر السّلطان أن يعمل على إصلاحات أخرى من شأنها توحيد الدّولة وتقويتها أمام الأعداء. فقام بإصلاح التّعليم وإنشاء المدارس. كما عمل على استمالة العرب وكوّن منهم حرسا خاصّا له وعيّنهم في الوظائف الكبرى داخل الدولة العثمانية.
ومن أهمّ الإنجازات أيضا هي الخطوط الحديدية الّتي قامت بربط مختلف أجزاء الدّولة ببعضها. وأهمّ تلك الخطوط هي سكة الحجاز الّتي امتدّت من دمشق إلى المدينة.
كانت سكة الحجاز مشروعا ضخما تبرّع له المسلمون في كلّ مكان من العالم، بداية من السلطان عبد الحميد الثاني. وقد كان مشروعا مخيفا بالنّسبة للدول الغربية لأنّها رأت ولمست فيه براعة السلطان في تقوية دولته من خلال تسهيل التنقل فيها والوصول إلى مختلف الولايات بسرعة، وهو ما جعل مكانته تكبر عند المسلمين.
مشاريع كهذه وكالجامعة الإسلامية أرعبت الدول الغربية الّتي كانت ترى في الدولة العثمانية خطرا عليها وكانت تنتظر أيّ فرصة للسّعي إلى تفتيتها. ولهذا عملت على نشر الفكر القومي من جهة، كما عملت على استمالة الوزراء والشّخصيات ذات النّفوذ في الدّولة.
لكنّ السّلطان عبد الحميد الثاني كان فطنا لكل ذلك وكان يسعى جاهدا لردعه. فمثلا كان يحاول استمالة تلك الشّخصيات ذات النفوذ بل ويقلّدها مناصب في إسطنبول حينما يشعر بمحاولة تآمر مع الأعداء على الدّولة ليمنعها من مغادرة المدينة.
يتّضح جليا من هذه الأحداث كيف كانت الدول الغربية تتربّص بالدولة العثمانية، وكيف كان الحمل ثقيلا جدّا على السلطان عبد الحميد الثاني الّذي كان يبذل جهده للحفاظ على الدولة.
في الجزء القادم من هذا المقال، سنواصل الحديث عن أهمّ ما واجهه السلطان عبد الحميد، وهم اليهود وطلبات هرتزل المتكرّرة للحصول على فلسطين. إضافة إلى جمعية الاتحاد والترقي الّتي كانت آخر ضربة استطاعت إزاحة السلطان من منصبه وأضاعت وحدة العالم الإسلامي منذ أكثر من مئة عام إلى يومنا هذا.