هذا هو الكتاب الثّالث من سلسلة أصول التّربية الإسلامية للمفكّر ماجد عرسان الكيلاني، وهو بعنوان: مناهج التربية الإسلامية والمربون العاملون فيها. وقد كنتُ كتبتُ مراجعة للكتابين السّابقين وهما: فلسفة التّربية الإسلامية، وأهداف التّربية الإسلامية.
يخطو الدّكتور ماجد عرسان الكيلاني خطوات واضحة في سلسلته. فبعد أن فصّل في فلسفة التّربية الّتي يجب تطويرها، ثمّ الأهداف الّتي يجب أن تسعى هذه التّربية للوصول إليها. يأخذنا في كتابه الثّالث إلى مزيد من التعمّق في موضوع التّربية والتّعليم، وذلك مع المناهج الّتي يجب أن تتبّعها هذه التّربية، والصّفات الّتي يجب أن يتّصف بها المعلّمون والأساتذة فيها.
فالقسم الأوّل من كتاب مناهج التربية الإسلامية والمربون العاملون فيها يخصّ مناهج التّربية.
وفيما يلي شرح المؤلّف لما يجب أن تكون عليه هذه المناهج وأهمّية هذا التّقسيم.
مناهج التّربية حسب ماجد الكيلاني
يرى المفكّر ماجد الكيلاني أنّ مناهج التّربية الحالية في الدّول الإسلامية لا تقوم بدورها. ويشرح بشكل جيّد مشكلة هذه المناهج، خاصّة كونها مناهج مستوردة لم تكن هناك أيّ فلسفة ملائمة للعالم الإسلامي خلفها. أمّا فيما يخصّ المؤسّسات الّتي تهتمّ بالعلوم الشّرعية فقط، فأزمة مناهجها تتمثّل في تقليد الآباء دون محاولة لفهم ما إذا كانت تلك المناهج مناسبة للعصر أم لا. إضافة لذلك، يتحدّث المؤلّف عن أزمة هذه المناهج في الدّول الغربية أيضا، وكيف أنّها لا تصل بالمتعلّمين سوى لغايات بسيطة كإعدادهم للعمل.
وكحلّ لهذه المشكلة، يطرح المؤلّف منهجا مناسبا شاملا يتألّف من ثلاثة محاور هي: منهاج تلاوة الآيات، ومنهاج التّزكية، ومنهاج تعليم الكتاب والحكمة.
فيما يخصّ منهاج تلاوة الآيات، يوضّح الدكتور ماجد الكيلاني أنّ الأمر لا يتعلّق فقط بتلاوة آيات القرآن بالمعنى المعروف، بل بالعمل بالتّوجيهات الّتي نجدها في آيات القرآن. ولفعل ذلك، يجب أن يكون هناك تكامل بين آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس، وهو ما يعني أن نبحث عن المعرفة الّتي يوجّهنا القرآن إليها حينما يأمر بالنّظر في الخلق والمخلوقات، وعدم الاكتفاء بالتّفاسير اللّغوية كما هو معمول به. وقد أورد المؤلّف شرحا وافيا لكيفية استخدام هذا المنهج واستخراج الثّمرات منه لمنظومة تعليمية سليمة.
أمّا منهاج التّزكية فهو يعني تزكية النّفس والبيئة وتطهيرهما من كلّ المعوّقات الّتي تعرقل وصول الإنسان إلى عيش حياة هنيئة وتحقيق الفلاح فيها. وقد شرح المؤلّف كلّ ما يخصّ بهذا المنهاج من أساليب.
والمنهاج الثّالث هو منهاج تعليم الكتاب والحكمة، فيتعلّق تعليم الكتاب بكلّ ما يتعلّق بالقرآن من تأويل وتفسير. أمّا الحكمة فهي الإصابة في فهم الكتاب، وذلك من خلال القدرة على اكتشاف السنن الّتي تنظّم الحياة، ثمّ تطبيق هذه السّنن إلى تطبيقات عملية. حيث أسهب المؤلّف في شرح محتوى علوم الكتاب وكذا محتوى علوم الحكمة، كما وضّح كيف أنّ التّكامل بين علوم الكتاب وعلوم الحكمة مهمّ جدّا، لأنّه سيحوّل تعلّم القرآن الّذي بات خاويا من أيّ معنى متعلّقا بالحفظ فقط، إلى تطبيق عملي ملموس في الحياة. كما تحدّث أيضا عن أزمة الانشقاق بين علوم الكتاب والحكمة، أي بين العلوم الدّينية والعلوم الاجتماعية والعلمية، وكيف أدّى هذا إلى الكثير من الجمود في العالم الإسلامي.
والقسم الثّاني من كتاب مناهج التربية الإسلامية والمربون العاملون فيها خاصّ بالمربّين.
وإليكم نبذة عن تصوّر الدّكتور عن ما يجب أن يتّصف به المربّون في المنظومة التّربوية.
المربّون حسب ماجد الكيلاني
يعني مصطلح المربّين كلّ معلّم وأستاذ في المنظومة التّربوية. ويمكننا، من خلال مناهج التّربية الّتي قدّمها المؤلّف، أن نستنتج أنواع المربّين الّذين تحتاج إليهم هذه المنظومة. وقد قسّم الدّكتور ماجد أولئك المربّين إلى ثلاثة أقسام أيضا، وهم: الآياتيون، وعلماء التّزكية، وعلماء الكتاب والحكمة.
فالآياتي هو المختصّ بالنّظر في آيات القرآن، ومن مهمّاته تحقيق اليقين وشهود الحقيقة وكذا إحكام الصّنع في المخلوقات والوجود. وقد وصف المؤلّف مهمّة الآياتي بأنّه لا يقف عند النّظر في العوامل الّتي تؤدّي إلى قيام الحضارات، أو عوامل قوّة الأمم أو تطوير التّكتولوجيا المتقدّمة فحسب، بل يتعدّاها إلى غاياتها النّهائية خلال مراحل الحياة والمصير. وطبعا يقوم المؤلّف بشرح مهمّة الآياتي بشكل واف وما الصّفات الّتي يجب أن يتّصف بها لينجح في مهمّته في المنظومة التّربوية.
وعلماء التّزكية هم المختصّون بتدريس مواد منهج التّزكية. وقد أوضح المؤلّف أنّ أهمّ صفة يجب أن يتّصف بها هؤلاء المربّون هي الحنيفية. وذلك أن يكون عالم التّزكية غير مربوط بمعيقات الآصار الثّقافية الموروثة عن الآباء، وأن يكون متحرّرا من مختلف الولاءات العصبية، وأن يجعل الولاية لله فقط. ولا شكّ أنّ هذه الصّفة مهمّة جدّا لهؤلاء المربّين، فمهمّتهم تزكية وتطهير كلّ مناهج التّربية من أيّ أفكار خاطئة تنحرف بها عن مسارها.
ثمّ يأتي علماء الكتاب والحكمة، وهم المربّون العاملون على مناهج تعليم الكتاب والحكمة. أمّا عن الصّفة الّتي يحتاجها أولئك المربّون فهي الربّانية حسب المؤلّف. ويعني ذلك أن يكون المربّي مخلصا في عمله صائبا فيه، كما يجب أن يكون ذو إرادة متحرّرة من أيّ عوائق كعبادة الأشخاص أو الأشياء، وأن يكون عقله متحرّرا من الآبائية. فالمربّي الرّباني في منهاج تعليم الكتاب والحكمة يتّصف بالحكمة والتّقوى، وهو من تنطبق عليه صفات ولي الأمر ممّن يحتاجه النّاس في أمور حياتهم.
نظرة شاملة
حينما نطّلع على شرح الدّكتور ماجد الكيلاني لمختلف المناهج وصفات المربّين العاملين فيها، فإنّه يتّضح لنا جليّا كيف أنّه يؤسّس لقاعدة منظومة تربوية شاملة تسيّر الحياة كلّها. فلا يركّز المؤلّف في هذه المنظومة على إخراج جيل قادر على الحصول على لقمة العيش فقط، وهو ما تفعله مختلف المؤسّسات التّعليمية. كما لا يركّز أيضا على إخراج جيل حافظ للقرآن وعالم بالفقه والحديث ومنزو على نفسه لا يخرج تأثيره عن دائرة حلقات العلم في المساجد، وهو حال مختلف المؤسّسات الإسلامية.
فما يجب فعله هو الجمع بين الإثنين، لكن ليس جمعا تقليديا كالّذي حصل في مؤسّسات كثيرة كالأزهر مثلا، ويكون ذلك بدراسة العلوم الشّرعية والعلوم الأخرى، دون أيّ ربط بينهما. بل الجمع الّذي يبحث عن الدّكتور ماجد هو إسقاط حقيقي لدين الإسلام على الحياة ككلّ، لتكون العلوم الشّرعية القاعدة الّتي تنطلق منها العلوم العلمية والاجتماعية، فيتحقّق التعلّم واليقين بحقيقة الدّين، والسّعادة بمعرفة الخالق والسّير على نور وحيه.