ككلّ عام، يتردّد المسلمون بين راغب بالاحتفال برأس السنة الميلادية ورافض له. ويتجدّد الجدال أيضا بشأن تهنئة المسيحيين بأعيادهم. ورغم أنّ الإجابات قد تكون واضحة لبعضهم، إلّا أنّها لازالت غامضة للكثيرين. كما لا زال البعض ينظر إليها إمّا بعين اللّامبالاة، أو بعين التشدّد والمغالاة.
ولهذا سأناقش في هذا المقال كيف يجب أن يشعر المسلم حيال الاحتفال برأس السنة الميلادية، وكيف يتعامل مع تهنئة النصارى بهذه المناسبة.
قد ترغب بقراءة: الانتخابات الرئاسية الأمريكية.. دليل حيّ على أهمّية الابتعاد عن تقديس الأشخاص
معنى الاحتفال برأس السنة الميلادية
علينا أن نفهم أوّلا بأنّ هناك شقّين لهذا الاحتفال. فالاحتفال بعيد الميلاد عند المسيحيين هو احتفال خاصّ بهم، ديني ربّما. وأقول ربّما لأنّ الحقيقية بأنّ المسيحيين المتمسّكين بالدين الحقيقي أنفسهم يرفضون هذا الاحتفال. فلم يولد المسيح أصلا في هذا التاريخ. ولطالما كان هذا الاحتفال عيدا وثنيا تبنّاه النصارى في أوروبا وأصبح احتفالا كبيرا سنويا بالنسبة لهم. ولا يهتمّ كثير من المحتفلين بالمعنى الديني لهذا الاحتفال. بل هو عيد سنوي للفرح والاجتماع مع العائلة وأخذ عطلة.
أمّا الشق الثاني لهذا الاحتفال فهو الاحتفال بدخول سنة ميلادية جديدة.
وهو احتفال يلي احتفال عيد الميلاد، الّذي يكون موعده الخامس والعشرون من شهر ديسمبر، والسابع من يناير عند البعض. ويكون هذا الاحتفال لاستقبال سنة ميلادية جديدة في التقويم الميلادي الّذي يعتمد عليه العالم كلّه. ويكون احتفالا رمزيا لأنّ أمورا كثيرة قد تتغيّر بحلول السنة الجديدة.
وشخصيا لا أقوم بالاحتفال لا بهذا ولا ذاك. فالاحتفال بعيد الميلاد هو حتما أمر لا يجب أن يقوم به مسلم. فإذا لم يكن ذلك احتفالا بميلاد المسيح، الّذي يعتبرونه ابن الربّ، فهو احتفال وثني. وكلا المعنيين لهذا الاحتفال معنيان باطلان لا يجب على المسلم أن يقرّهما. ولهذا يكون الاحتفال هنا مجرّد تشبّه بهم دون فائدة تذكر. أمّا الاحتفال برأس السنة الميلادية فشخصيا لا أرى له أيّ معنى أيضا. لكن أعتقد بأنّ هناك من يحبّ أن يدخل السنة الجديدة بفرحة وبإحساس مختلف. وهو بعيد كلّ البعد عن الاحتفال بعيد الميلاد المسيحي، ولا يقع عليه نفس الحكم. وهو يدخل ضمن الاحتفالات الوطنية أو الاحتفال بالنجاح أو الاحتفال بعيد الميلاد الشخصي.
لكن لتجنّب اللّبس لا أرى بأنّه من الواجب أن يكبر الطفل في أسرة تحتفل برأس السنة لأنّه يلتبس عليه فيظنّه عيد المسيحيين. فقد منحنا الله عيدين عظيمين في السنة وهما كافيان للاحتفال ولهما معنى ديني واضح.
بعيدا عن الاحتفال برأس السنة الميلادية، هل يجوز تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد؟
يتجدّد هذا الخلاف هو الآخر كلّ عام. وهناك من يشدّد على “حرمته” لدرجة تكفير من يقوم به، وهذا من التشدّد الّذي لا أصل له في الإسلام.
حينما اطّلعت على محرّمي التهنئة، فقد اعتمدت أقوالهم على ما قاله ابن تيمية وابن القيم. لكن سنعود ثانية لما كنت قد تكلّمت عنه في مقال سابق عن الآبائية. فما انطبق على زمن أولئك العلماء لا ينطبق على زمننا. ولا يجب الأخذ بجملة واحدة قالها أحد العلماء لبناء حكم عليها ثمّ تعميمه بالقول “حرام بالاتفاق”. وبالفعل صار استخدام الإجماع سهلا عند المفتي في أيّامنا هذه، ويستخدمه دون البحث إن كان هناك إجماع فعلا أم لا. فلعلّ الزمن الّذي دفع بعالم ما إلى رفض تهنئة النصارى بعيد كان بسبب عداوة أو بسبب خوف من انسلاخ المسلم من دينه وتقليد ما يفعله اليهود والنصارى.
لكنّنا في زمننا هذا نعيش في عالم أصبح أشبه بالقرية الصغيرة.
ونتواصل مع عدّة أجناس وطوائف وديانات. فهل يمكن أن تنعت المسيحي بالكافر بدل أن تقوم بتهنئته؟ بل وذهب بعضهم يقتبس من بعض ما قاله الأئمّة الأربعة بألّا يجب على المسلم أن يهاديهم أو يقبل هديّة منهم أو يبيعهم شيئا أو أن يصادقهم، فهل هذا ممّا يظهر حسن الإسلام أم ممّا يجعله دينا متشدّدا منعزلا على نفسه؟ فكيف يمكن أن تنشر الإسلام إن كنت لن تقبل حتّى بالنظر إلى المسيحي أو اليهودي؟ هذا ممّا لا يدخل العقل أصلا. وهو إمّا اقتطاع لكلام العالم عن ظرف معيّن، أو يعود لزمن معيّن كان فيه الخوف على دين المسلم أهمّ من أيّ شيء.
وقد اطّلعت على ما جاء في فتاوى المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء ممّا يجيز تهنئة النصارى في المناسبات. وقد اعتمدت الفتوى على الآية القرآنية الّتي تقول “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم”. فالعداء يكون لمن هو عدوّ لله ورسوله والمسلمين. لكنّ المسيحي المسالم لا يجب معاداته دون سبب، بل يجب معاملته بالحسنى كما جاء في الآية. وقد أباح الله أيضا أن يتزوّج المسلم من الكتابية، وأن يأكل المسلمون من طعام أهل الكتاب. وهذا أيضا يناقض ما اعتمد عليهم من لا يجيز تهنئة المسلمين. فكما قلت من قبل، هو اقتطاع لكلام جاء في ظرف معيّن. فالآيات القرآنية تقول عكس ذلك.
والتهنئة طبعا لا يجب أن تتضمّن محرّما، أي لا تكون تهنئة بعيد الميلاد الّذي يحتفلون به. بل يجب أن تكون تهنئة عامة كالتهنئة بالعطلة السنوية أو غيرها. ولو سرنا بذلك التشدّد الّذي يتحدّث به بعض المتشدّدين لكان العالم الإسلامي انعزل عن كلّ شيء في هذا العالم وانطوى على نفسه. ونحن نعلم جميعا بأنّ المودّة وحسن الخلق، اللّذان يراهما أهل الكتاب أو أصحاب الديانات الأخرى من المسلمين، قد دفعا كثيرا منهم لاعتناق الإسلام. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل بأن الله يحب الرفق في الأمر كلّه. وقال الله لرسوله “لو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك”.
خلاصة القول
يجب على بعض المشايخ ممّن يكفّرون الناس على كلّ صغيرة وكبيرة أن يحاولوا الاطّلاع على الحياة أوّلا، ثمّ تجديد المفاهيم ثانيا. فقول عالم ما في زمن سابق بكلام معيّن لا يعني أن نسقط تلك الجملة على كلّ الظروف والأحوال. بل يجب أن يتمّ تغليب المصلحة من جهة. والاطلاع على الأضرار من جهة أخرى. فنعلم بأنّ الاحتفال معهم والتشبّه بهم لا يجوز. لكن أن يبلغ الأمر إلى رفض الإحسان إليهم فهو مغالاة في الدين. ولا يمكن للعقل أن يتصوّر بأنّ دين الإسلام يأمر المسلم أن يكون متشدّدا غليظ القلب لهذه الدرجة مع شخص مسالم ربّما يجاوره في المسكن. ولو كان الأمر يخصّ عدوّا فنحن جميعا نعلم بأنّ مودّته لا تجوز وهو يحارب المسلمين ويؤذيهم.
قد ترغب بقراءة: الوسطية في الإسلام وكيف ينظر إليها المسلم المتشدّد والمسلم الكيوت