الشخصية الانطوائية

الشخصية الانطوائية… لماذا لا يزال البعض غير قادر على فهم الانطوائية؟

أنا لا أحتاج للبحث لكتابة مقال عن الشخصية الانطوائية، لأنّني شخص انطوائي وأفهم تماما شخصيتي وأحبّها وأفخر بها. لكنّني قمت ببعض البحث قبل بداية المقال فقط لكيلا أنسى أيّ نقطة مهمّة يجب أن أذكرها هنا، وقد استغربت ممّا وجدت. فحينما بحثت باللغة الإنجليزية عن مصطلح introversion، عثرت على صفات الشخصية الانطوائية والاختلافات بينها وبين الشخصية الانفتاحية وغيرها من المعلومات. أمّا حينما بحثت باللغة العربية فقد وجدت مواقع تقدّم علاجا للانطوائية؟؟ لماذا لا نزال متخلّفين في كلّ شيء حتّى في أمر بسيط كهذا؟

ولذلك قبل أن أبدأ الكتابة عن هذا الموضوع. على الجميع أن يفهم بأنّ الانطوائية ليست مرضا، بل هي سمة شخصية عادية موجودة في الحياة منذ خلق الله آدم. فإن كنت انطوائيا فتعال أعرّفك على ما يجعلك تهتمّ بانطوائيتك وتفتخر بها. وإن كنت صاخبا فتعال أعرّفك على كيفية احترام صديقك الانطوائي.

احصل على ثانوية الأشباح

قد ترغب بقراءة: كيف تحفّز نفسك… لنأخذ العبرة من تجربة عفوية لطفلة صغيرة

مميّزات الشخصية الانطوائية

أهمّ ميزة يتمتّع بها الشخص الانطوائي هو عدم راحته وسط الضجّة. يؤدّي التواجد في حدث اجتماعي صاخب إلى جفاف طاقة الانطوائي. ولهذا كثيرا ما يحتاج الانطوائي إلى وقت ليشحن بطاريته بعد أيّ حدث اجتماعي. ويعود هذا أساسا إلى ردّة فعل الدماغ على المحفّزات. فبينما يحبّ صاحب الشخصية الانفتاحية الأحداث الاجتماعية الّتي تمنحه تحفيزا كبير لدماغه ما يجعله يفرز هرمون الدوبامين. يتمّ تحفيز دماغ الانطوائي من خلال أحداث أقلّ صخبا وأكثر أهمّية لنفسه. ولهذا لا يقوم نظامه بإفراز الدوبامين تفاعلا مع الأحداث الاجتماعية.

من ضمن أكثر ما لا يطيقه الشخص الانطوائي هي تلك الشخصيات الانفتاحية الّتي تتحدّث فقط حبّا في التحدّث لا أكثر. سأحبّ أنا كانطوائية أن أتحدّث مع شخص أشاركه اهتمامات معيّنة. وأحبّ أن يكون لحديثي معنى. ناقشني عن موضوع عن الحياة والكتب والتاريخ وسأتحدّث ملء نفسي. لكن أن تتحدّث معي عن خليط من المحادثات الّتي لا معنى لها (وتُسمّى بالانجليزية small talks) فهنا لن أركّز معك أصلا. بل ستجدني أفكّر في فكرة واحدة فقط “متى سيتوّقف عن الكلام”.

لذلك أكثر الملاحظات الّتي لا أحبّ سماعها هي “لماذا أنت صامتة؟” أو “لماذا لا تشاركين في الحديث؟”. وربّما لأنّ الانطوائيين أشخاص مهذّبون فهم لا يردّون على تلك الأسئلة بإجابة من نوع “لماذا لا يمكنك التوقّف عن الكلام؟” أو “لماذا أنت صاخب لهذه الدرجة؟”. وعلينا جميعا أن نعترف بأنّ نسبة كبيرة من كلام البشر، قد تصل إلى 80%  هي مجرّد ثرثرة. ونعلم كمّ الحكم الّتي تمدح الصمت، فقل خيرا أو اصمت.

ورغم حبّ الانطوائي لوحدته والغوص في أفكاره،

إلّا أنّ الانتقال للانفتاحية متى تطلّب الأمر ذلك هو أمر سهل جدّا عليه. حيث يستطيع الانطوائي التغلّب على أيّ عراقيل أمامه وأن ينجح في أيّ عمل يتطلّب منه التفاعل مع الناس بدرجة كبيرة أو لفترة طويلة. وكلّ ما يتطلّبه الأمر هو تنظيم الوقت والحصول على الراحة اللّازمة من الصخب.

من ميزات الانطوائي أيضا أنّه يفكّر ويحلّل كثيرا قبل أن يتحدّث. ولهذا يكون كلامه موزونا دوما وفي محلّه. وغالبا ما يكون لكلامه وزن بين أصدقائه أو بين زملاء العمل، لأنّهم بحكم الوقت يعتادون على كونه لا يشارك كثيرا، وحينما يفعل فهو يقدّم حلولا محكمة لمشكلة ما قرّر أخيرا المشاركة فيها بعد أن قام بتحليلها بشكل جيّد.

ويُعتبر الصديق الانطوائي أفضل صديق يمكن الحصول عليه. فأوّلا لا يقوم الانطوائي بمصادقة أيّ أحد، بل يختار أصدقاءه بعناية. وثانيا هو مستمع جيّد، لذلك يجد فيه الصديق الانفتاحي أذنا مصغية دون أن يحكم عليه أو يقاطعه كما يفعل الأشخاص الصاخبون. ويقدّم النصائح لصديقه بعد تحليل لما سمعه، ودون إطلاق أيّ أحكام. ولهذا أيضا يميل الانطوائي إلى الوفاء لمن يحبّهم. فستجده يدعمك دوما حتّى دون علمك إن كنت صديقا مقرّبا منه. وكلّ ما يحتاجه منك هو احترام حاجته لعدم التواصل الدائم المرهق، بل منحه المساحة الّتي يحتاجها.

الشخصية الانطوائية ليست مرضا

لم أقابل من قبل بحثا أو شخصا يقول بأنّ الانطوائية مرض، إلّا حينما بحثت عنها باللغة العربية. وهذا دليل على سوء فهم كبير لمعنى الانطوائية الّذي فهمه العالم قبل عقود. فالانطوائية كما قلت من قبل هي سمة شخصية لا أكثر. ولا يجب على أيّ أحد أن يحاول أن يتغيّر ظانا أنّ انطوائيته مرض نفسي. ولا يجب على أيّ شخص أن يفرض على شخص آخر أن يتغيّر فقط لأنّه ليس صاخبا مثله.

ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ الانطوائية لا تعني الخجل أو الخوف الاجتماعي أو الاكتئاب أو أيّ مرض نفسي آخر قد يلصقونه بها. فالانطوائي ليس شخصا خجولا بالضرورة. والانطوائي يمكنه أن يتصرّف بفعالية كبيرة في المجتمع بسهولة.

إضافة لذلك، لا يشعر الانطوائي بالوحدة مطلقا، فنظامه يعمل بتلك الطريقة ويحتاج لمساحة كافية ليعمل بفعالية. ولهذا فليس الانطوائي شخصا غير سعيد. بل هو سعيد جدّا ويجد سعادته في راحته النفسية حينما يحصل على مساحته ويعيش حياته كما يريدها. تماما كما يجد الانفتاحي سعادته في التفاعل مع الناس.

قد ترغب بقراءة: الاختلاف العميق قد يكون دليلا لفهم العلاقات بين الأشخاص

أمثلة على نجاح الانطوائي في كل المجالات

يؤدّي ربط الانطوائية بسمات أخرى كالخجل المفرط، أو بأمراض نفسية أخرى، إلى الظنّ بأنّ الانطوائي غير قادر على النجاح في الحياة. وهو ظنّ خاطئ كلّيا. بل وتظهر بعض الأبحاث بأنّ الانطوائي يميل إلى الإبداع ويكون ذكيّا أكثر من الانفتاحي، وذلك بسبب تفكيره العميق في الأمور وقدرته الكبيرة على التحليل.

فأينشتاين، أحد عباقرة الفيزياء، كان انطوائيا. وهو من قال “تقوم العزلة والحياة الهادئة بتحفيز العقل الإبداعي“. ومن قبله نيوتن كان انطوائيا بدوره. ولا ننسى ذكر روزا بارك، الّتي رفضت إعطاء مقعدها لرجل أبيض، وأسّست للحرّية والمساواة.

وفي الحياة المعاصرة نذكر بيل غيتس، صاحب مايكروسوفت سابقا، ومارك زوكربيرغ، صاحب فيسبوك، ولاري بيج، مؤسّس غوغل، وماريسا ماير، مديرة ياهو السابقة، وإيلون ماسك. وقد يدهشك أيضا أن تعرف بأنّ هيلاري كلينتون انطوائية أيضا، وكذلك باراك أوباما. ولا ننسى طبعا جوان رولينغ، صاحبة سلسلة هاري بوتر. وربّما من المفيد أن نذكر بأنّ عالم التمثيل بدوره ليس حكرا على الشخص الانفتاحي، فالممثلة المشهورة بأنّها أفضل ممثّلة في جيلها، ميريل ستريب، هي انطوائية أيضا.

وهذه مجرّد أمثلة كنت أعرف بعضها، بينما حصلت على البعض الآخر من خلال البحث. وذلك فقط لأغطّي مختلف المجالات ولأمنح رسالة لكلّ انطوائي بأنّه قادر على النجاح في أيّ مجال يريده. ولا حاجة له لتغيير شخصيته.

الخلاصة

لا أدري إن كنت قد قمت بتغطية كلّ ما يخصّ الشخصية الانطوائية في هذا المقال. لكنّني حاولت أن أشرح قليلا كيف أنّ الاختلاف لا يكون مخيفا حينما نعرف من نحن وحينما نجد من يحترمنا ونحترمه. وقد كان باراك أوباما خلال قيادته للولايات المتحدة يحصل يوميا على عدّة ساعات يقضيها وحده في مكتبه. وهو ما يعني بأنّ ترتيب الجدول وإيجاد المساحة الكافية للنفس هما المفتاح لنجاح الانطوائي في أيّ تحدّي. كما عُرف عنه أيضا اتّزانه وهدوؤه عند الشدائد، وهو ما جعله يخرج بقرارات حكيمة.



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أسماء عابد
أسماء عابد   
أستاذة جامعية حاملة لشهادة دكتوراه في الهندسة الميكانيكية. كاتبة ومدوّنة ومترجمة وباحثة أكاديمية تعشق الكتب والتاريخ والحضارات
تابعونا