سأتحدّث في هذا المقال من منظور تجربتي الشخصية. فما أراه حولي يثبت بأنّ المجتمع الشرقي يكره الاختلاف ويحبّ أن يسير الناس كلهم على نفس القانون وألّا يفكّروا في مخالفة التقاليد والأعراف. وحينما يصطدمون بشخص مختلف يتمرّد على تلك التقاليد فإنّهم يرمقونه بنظرة غريبة كما لو أنّه فضائي قادم من خارج هذا الكوكب. فلماذا يخاف المجتمع الشرقي من فكرة الاختلاف في التفكير؟
لديّ تجارب حافلة مع تلك النظرة لشخص قادم من كوكب آخر، لدرجة أنّني أصبحت أجيب بأنّني كائن فضائي كنوع من المزاح. وسأحكي قليلا عن هذه المظاهر وكيف أنظر إليها وكيف أشعر اتّجاهها. وقد كنت كتبت من قبل مقالا عن تمسّك المجتمع الشرقي بالتقاليد والأعراف بشدّة وحماس لا أستطيع فهمه. ومقالا آخر عن كيف يستخدم المجتمع الشرقي الدين ليدافع عن أعرافه وتقاليده الّتي يعشقها.
الاختلاف في التفكير يجعلني متمرّدة على الحياة في نظر البعض
لطالما كنت بالفعل متمرّدة منذ الصغر. لكنّني لم أضع يوما اللّوم عليّ. بل كنتُ أعرف بأنّ مجرّد استخدامي لحقّي في التفكير ليس إجراما. وبحثي عن الحقائق وعدم الاقتناع بالأمور فقط لأنّها تقاليد موروثة هو أمر كبر معي منذ أن تعلّمت التفكير. ولهذا كنتُ أعلم بأنّني أعيش وسط مجتمع ضيّق الأفق محدود التفكير. إذ لم أكن أتلقّى أجوبة لأبسط أسئلتي مثل “لماذا لا نقوم بتقشير الكوسى بشكل كامل؟ لماذا نقوم بتقشيرها جزئيا فقط؟” (لا أدري إن كان هذا يحصل في بلدي فقط أو في بلدان عربية أخرى أيضا). وقد كنت أطرح الكثير من الأسئلة وأرفض القيام بعمل دون أن أفهم السبب وراءه، ما جعل والدتي تطردني من المطبخ عدة مرات. وهو طرد كان يروقني لأنّني لم أحبّ المطبخ يوما ولا زلت لا أدخله إلّا نادرا.
وربّما عليّ أن أتحدّث أيضا عن المطبخ. لطالما كانوا يستغربون كوني لا أتعلّم العمل المنزلي كما ينبغي. ويسألونني بكلّ جدّية “كيف ستتزوّجين؟” وكنت أجيب بكلّ عفوية “أنا لم أخلق لعمل لا أحبّه” ثمّ أصبحت أجيب بشكل أكثر نضوجا “يستطيع هذا الزوج الّذي ينتظر منّي أن أنجز له أعماله المنزلية أن يبحث عن خادمة إن كان ذلك ما يبحث عنه في الزوجة“. وأنا أعلم حتما أنّ قارئ هذا الكلام قد بدأ دمه يسخن بالفعل لأنّني أفكّر بهذه الطريقة. لكن هذه هي أنا. أنا مختلفة عن تقاليدكم وعاداتكم. خلقني الله على هذه الأرض لأحياها كما أريد أنا. وطالما لا أعصي ربّي فلا تهمّني تقاليدكم وأعرافكم.
ولازلت أذكر أيضا حينما أجرّب الدخول في أحاديث الزواج وتحضيراته،
حيث أقول بأنّها مجرّد تحضيرات باهظة الثمن دون فائدة. بل وطريقة الزواج كلها تبدو وكأنّ الرجل يشتري المرأة ولا تشبه الزواج في أيّ شيء. وحينها أيضا كان يُنظر إليّ على أنّني “فضائي”، وأحيانا يُسمع صوت صرصور الحقل لعدم القدرة على تصديق ما أقوله.
وقد كبر معي تمرّدي واختلافي وأصاب كلّ مجالات حياتي. فبينما كان النفاق يغزو عالم العمل الإداري الّذي كنت جزءا منه لعدّة سنوات. كنتُ أنا الاختلاف من خلال صمتي وعدم اكتراثي لبيئة العمل. وأذكر كيف كان يقوم أشخاص بعمل إضافي دون أن يطلب منهم أحد ذلك ثمّ يشتكون منه، والهدف من ذلك هو محاولة لفت الانتباه حسب ما فهمت. لكنّني كنت أجيبهم ببساطة “لم يطلب منك أحد ذلك، فالأفضل ألّا تتجاوزي وقت العمل بدل أن تشتكي”. وحينها أيضا كنت أقابل بنظرة غريبة كما لو أنّني ارتكبت جرما.
ولازال هذا التمرّد يرافقني في كلّ خطوات حياتي، بما فيها النقاشات الّتي أخوضها “أحيانا”، وبما فيها هذا الموقع المليء بالأفكار الجديدة.
قد ترغب بقراءة: خرافات فيروس كورونا الجديد كوفيد 19 الّتي انتشرت في العالم العربي
هل الاختلاف في التفكير مخيف لتلك الدرجة؟
أنا أعلم تماما بأنّ العادات والتقاليد والأعراف هي أغلال ثقافية يصعب التخلّص منها. لا أعلم ذلك من منظور شخصي، بل من خلال ردّة فعل الناس على من يطالبهم بالتخلّي عنها. وقد كنت تحدّثت في مقال سابق بأنّ الآبائية وتقليد الآباء أمران ذمّهما القرآن وأراد من العرب التخلّي عنهما وتقبّل الحقّ كيفما كان. لكن مع ذلك لازال المجتمع الشرقي يتمسّك بالآبائية بكلّ قوّة، بل ويضعها فوق الدين.
لكن ورغم أنّني أرى كيف يصعب على الأشخاص التخلّي عن الموروث الثقافي، لازلت لا أفهم لماذا يخيفهم التخلّي عنه لتلك الدرجة؟ هل تجربة التفكير الحرّ مخيفة؟ أو هل يخشون الخروج خارج المنطقة المريحة في الحياة؟ أم هل كانت التربية الّتي قولبتهم على تقبّل تراث الآباء سببا في عدم قدرتهم على التغيّر؟
أسئلة كثيرة تدور بنفسي حينما أجد شخصا غير قادر حتّى على تخيّل التخلّي عن عرف ما، رغم ما لذلك العرف من ضرر. ولعلّ التربية فعلا هي جزء من السبب. إضافة إلى التعليم في المدارس والجامعات، وهو تعليم لا يؤسّس لحرّية التفكير مطلقا، بل يزيد الطين بلّة ويطلب من الطالب حفظ ما يُلقى عليه فقط دون منحه فرصة لمناقشة تلك المعلومات.
لكنّني أؤمن بأنّ المحاولة يمكن أن تنجح بسهولة إن حرّر الإنسان عقله. إن قرّر الإنسان أن يبحث عن الحقيقة ولا شيء آخر. فسيمكنه بسهولة أن يبدأ بملء عقله بالحقائق بدل الموروثات الثقافية. وسيبدأ أيضا بتصفية تلك الموروثات الثقافية بحيث لا يتقبّل منها إلّا ما هو سليم ومفيد. ويتخلّى عن تلك الموروثات الشاذة أو الضارّة.
خلاصة القول
كانت هذه مجرّد فضفضة لما يجول بنفسي حول خوف المجتمع من الاختلاف في التفكير. وإذا ما حاولت سرد كلّ المواقف الّتي شعرت فيها بهذا الخوف فلن يكفيني مقال واحد. وأعتقد شخصيا بأنّ الشخص الّذي يرى نفسه مختلفا في المجتمع عليه أن يشكر ربّه كثيرا على هذه النعمة. وأنا بالفعل أشكر الله عليها كلّ يوم. لأنّ مجرّد أن أتخيّل نفسي مكبّلة بكلّ تلك التقاليد والأعراف دون أن أفهم حتّى السبب هو أمر مخيف للغاية. وأرجو أن يمنح الله المجتمع الشرقي خلاصا من أغلاله الثقافية ليستطيع قيادة العالم من جديد كما فعل من قبل.
قد ترغب بقراءة: القومية والإسلام… نظرة على تمسّك شعوب المنطقة بالقومية