حينما نتحدّث عن القومية في مجتمعاتنا، فهي متعصّبة لدرجة لا تُطاق. ورغم أنّنا عرفنا الإسلام وكان يجب أن يوحّدنا دوما، إلّا أننا تركناه وجرينا خلف القوميات ناسين الديانة الّتي تجمعنا. وللأسف يؤمن الكثير من شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهذه القوميات لدرجة أنّ الخلاف لا يقع بين الدول فقط، بل وبين شعب الدولة الواحدة، وذلك بناءً على القبائل المختلفة الّتي ينتمي إليها الأفراد. ولهذا لا يمكن بأيّ حال من الأحوال الجمع بين القومية والإسلام.
وشخصيا لطالما كنت أمقت هذه القوميات. فالله قد منحنا دينا عظيما ساوى فيه بين البشر، فلا فضل لعجمي على عربي ولا عربي على عجمي إلّا بالتقوى. فكيف نترك هذا المعنى العظيم في الإسلام ونجري خلف تراث الأجداد دون فائدة تُرجى.
سأتّحدث قليلا في هذا المقال كيف مزّقتنا هذه القوميات، وكيف لا نجيد حتّى استخدامها، إذ لا زال التعصّب للقبيلة ولروابط الدم يطغى على شعوب المجتمع الشرقي.
لا نقطة تقاطع بين القومية والإسلام
نعرف جميعا الحادثة الّتي حصلت بين المهاجرين والأنصار، إذ تشاجر رجلان من كلا الفريقين، فنادى أحدهما “يا للمهاجرين” ونادى الآخر “يا للأنصار”. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم حينما سمع ذلك قائلا “مال بال دعوى الجاهلية؟”، وحينما أخبروه عمّا حدث أضاف قائلا “دعوها فإنّها منتنة”.
كان هذا تقريرا واضحا من النّبي يرفض فيه الانتماء لأيّ جهة سوى الإسلام. وقد سمّى فورا الانقسام الّذي كاد يحدث بسبب مناداة كلّ رجل لقومه “جاهلية”. ففي الجاهلية كانت مثل هذه العصبيات تهلك القبائل. إذ قد تحصل معارك كبيرة لمجرّد الانحياز للدم. ولا يهمّ حينها إن كنت تنحاز لظالم، فعليك أن تنصر قبيلتك ولو كانت ظالمة.
لكن حينما جاء الإسلام أبدلنا بما هو خير من تلك العصبيات والانتماءات المنحرفة، فجعل ميزان النّصرة هو العدل. فإن كان أخوك من دمك ظالما، فسيكون عليك إيقافه عن ظلمه، ولو كان المظلوم من قبيلة أخرى. وبهذا المفهوم يمكن صنع أمّه قويّة أساسها المساواة والعدل بين كلّ أفرادها. ومثل هذه الأمّة لن توقفها الانتماءات للقبائل أو للأرض، فيجد المسلم بأنّ كلّ الشعوب المسلمة أهله، وكلّ الأرض الّتي يعيش عليها مسلمون هي أرضه.
وهذه الأمّة بدورها تعطي حقّا لغير المنتمين إليها، دون تفرقة. إذ أمر الإسلام أن تحسن الأمّة المسلمة إلى باقي الديانات، وأن تمنحهم الأمان والعيش الكريم وحرّية ممارسة دياناتهم. ففي هذه الأمّة لا يوجد مفهوم أن يعيش الوطن ويموت بقيّة الشعوب. ولا يوجد مفهوم تحسين حياة شعب واحد وسرقة الحياة من بقيّة الشعوب.
ولهذا لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تلتقي القومية أو ما يسمّى بالوطنية مع الإسلام. فالقومية تُعنى بشعب واحد يتشارك الدم أو التراب. لكنّ الإسلام يضمّ تحته جميع الأطياف تحت جناح العدل.
قد ترغب بقراءة: قراءة في كتاب اعترافات قاتل اقتصادي لكاتبه جون بركنز
مظاهر الشقاق بين القومية والإسلام في عالمنا المعاصر
للأسف لازالت شعوب المجتمع الشرقي تعيش جاهلية ما قبل الإسلام. فتجدهم ينتمون لأجداد لا يغنون عنهم شيئا ويحاولون إيجاد الفخر في ذلك الانتماء. فالمصري يفتخر بفراعنته، والجزائري لا يعرف أصله فينسب نفسه للعرب، والعربي يعتقد أنّه أفضل عرق، وهكذا دواليك.
والحقيقة الكاملة هي قول الله تعالى “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
فلا خير لعرق على آخر، وليس العرب أفضل من غيرهم في الإسلام لأنّ الإسلام نزل فيهم. بل الإسلام نزل للبشرية جمعاء. وقد كانت حكمة الله، كما أوضح الدكتور ماجد الكيلاني، أن ينزل في الصحراء القاسية لأنّه كان بحاجة لرجال ونساء فيهم الكثير من الشدّة والزهد عن الدنيا ليستطيعوا حمل الرسالة وحمايتها إلى أن تكبر. فلم يكن الأمر تفضيلا لذلك العرق. إذ من يدّعي ذلك يشبه بني إسرائيل حينما ظنّوا أنّهم شعب الله المختار وأنّه لن يعذّبهم بذنوبهم مثل بقيّة الأعراق. فهذه السخافات هي تماما ما تجلبه لنا القوميات وعصبية الدم.
وبنفس الحال، يحاول كلّ شعب التفتيش على خفايا ما أنجزه الأجداد قبل نزول الإسلام ليفتخروا به. بينما حريّ بهم أن يفتخروا بإنجازات المسلمين ممّن فتحوا البلدان ووصلوا إلى أوروبا. فذلك هو الانتماء الّذي يجب أن يفتخر به المسلم، لا أجداد عبدوا الأصنام.
وحينما ينتهي الشجار بين الجزائري والمغربي والمصري والأردني، يبدأ شجار من نوع آخر، وهو شجار القبائل. إذ تحصل الخصومات بين أبناء الشعب الواحد بسبب الانتماءات القبلية، والّتي كثيرا ما تكون خاطئة أصلا.
ولهذا لم تستطع هذه القوميات والعصبيات أن تفيدنا بشيء.
فحتّى تلك المحاولات القديمة بتوحيد العالم الناطق باللّغة العربية فشلت، لأنّ العروبة نفسها ليس جامعة لكلّ الشعوب. ما أدّى إلى الاختلاف على من يحكم ذلك الائتلاف العربي. بينما لو انطلقت المبادرة من منطلق الإسلام الّذي يجمع شعوب المنطقة، لما شعر كلّ شعب بأحقّيته في الحكم، ولتمّ اختيار الأجدر فقط دون الاهتمام بأصله.
وبهذا ندرك بأنّه لا الانتماء للعروبة ينفع، ولا الانتماء للدم أو للقبائل. وحينما بيّنت من قبل بأنّ أصل الجزائري ليس عربيا كما يظنّ. فهو من باب ألّا يكون الشعب جاهلا بأصله فينتسب بشكل خاطئ لغيره. فالعرب هم سكّان الجزيرة العربية فقط كما هو معروف. وتكون هنا معرفة الأصل مفيدة في شيء واحد، وهو الافتخار بعظمة الإسلام الّذي استطاع جمع مختلف شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا رغم الاختلافات بينهم في العرق والتاريخ. والافتخار بتبنّي هذه الشعوب للإسلام بذلك الشكل القويّ.
فإن لم يستطع شعوب المنطقة الاتّحاد تحت مظلّة الإسلام، فلن تقوم لهم قائمة مطلقا. وسيظلّون مجرّد قبائل تفتّش عن تراث الأجداد لتجد ما تقتات عليه في حياتها اليومية من مشاحنات قبلية قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلّم “دعوها فإنها منتنة”.
قد ترغب بقراءة: نظرة على تاريخ العنصرية ضد السود وكيف شارك المسلمون فيها بشكل فظيع
الخلاصة
في النهاية إذا ما أسقطنا القومية على الشعوب الغربية، فسنجد بأنّ تفكيرها أنضج من تفكير شعوبنا بآلاف المرّات. فقد صنعت القومية الاتحاد الأوروبي، فزالت الحواجز بين شعوب أوروبا، وعملت الدول معا لتصبح أقوى ولتساند بعضها البعض. وقد نجح اتّحادهم نجاحا باهرا. وبالمقابل، لم تقف القومية عائقا أمام سكّان الولايات المتحدة الأمريكية. فهم ليسوا سكانا أصليين هناك، بل جاؤوا من مناطق مختلفة. ومع ذلك استطاعوا تشكيل أقوى دولة في العالم يفتخر المواطن فيها بأنّه أمريكي، ولا حاجة لأن يعود لأصله. ولهذا استطاع في دولة عادلة وناضجة كتلك أن يصل رجل أسود إلى الحكم، وأن تصل امرأة سوداء بل ولها أصل هندي إلى منصب نائب الرئيس.
بل وحتّى الكيان الصهيوني المسمّى بإسرائيل عمل بنضج على عكس شعوب منطقتنا. فقد استطاع جمع مختلف الأعراق تحت مظلّة الصهيونية في دولة قويّة.
ولنواصل نحن نبش الآثار والافتخار بالأجداد عبدة الأصنام، وتعيير بعضنا البعض على أسس سخيفة لا منطق فيها.