كتاب فلسفة التربية الإسلامية هو أوّل كتاب في سلسلة طويلة للمفكّر الرّاحل ماجد عرسان الكيلاني، يغطّي فيها التربية الإسلامية والمنهج الّذي ينبغي أن تتبّعه لتنتعش وتنعش معها الأمّة الإسلامية.
وأنا على يقين بأنّ سلسلة التربية الإسلامية هذه قادرة على تغيير نظم التّعليم بشكل كامل إلى الأفضل، إن وجدت من يستطيع تحويلها إلى تطبيق عملي. وليت أولئك الّذين لا يفعلون شيئا سوى إلقاء الخطب والمواعظ أن يحاولوا استعمال ما لديهم من مكانة بين النّاس وأن يسعوا إلى دراسة هذه الكتب الثّمينة ومحاولة تغيير ما يمكن تغييره!
لن يكون بإمكاني أن ألمّ بكلّ جوانب هذا الكتاب الرّائع بعنوان “فلسفة التربية الإسلامية” الّذي يمنح نظرة جديدة مختلفة للحياة، لكنّني أنصح بشدّة بقراءته وسأحاول أن أذكر أهمّ ما جاء فيه في هذا المقال.
قد ترغب بقراءة: فشل تربية الأبناء في المجتمع الشرقي
فلسفة التربية الإسلامية
أوّل وأهمّ ما تعلّمته من الدّكتور ماجد أنّ التربية هي أساس كلّ شيء. فالتربية هي ما تنهض بالمجتمع وهي ما تهبط به إلى الحضيض.
والأزمة التربوية الّتي يقع فيها العالم العربي والإسلامي هي أزمة متشابكة الخيوط حلّها ليس سهلا، لكنّه ليس مستحيلا أيضا. فبينما سعى الغرب ولازال يسعى ليحسّن نظم التّربية لإخراج جيل يعرف ما يريد ويستفيد من تلك التربية في حياته، لم يفعل العالم الإسلامي شيئا حيال الأمر.
ففي الدّول العربية لم تحصل محاولات جدّية للإصلاح ولإيجاد منهج تربية ملائم للجيل وللإسلام وللحاضر، بل كلّ ما حصل هو استيراد للمناهج الغربية الّتي خُلقت بناءً على بيئة معيّنة ولشعوب معيّنة، والتمسّك بمنهج التّقليد فيما يخصّ دين الإسلام، فأصبح الدّين مجرّد حكايات وروايات يستمع إليها الطّلبة فتمنحهم قليلا من الافتخار بالآباء، وكثيرا من الشّعور بالعجز.
تخبرنا فلسفة التربية الإسلامية بأنّ العلوم كلّها علوم إسلامية
يعلّمنا الدّكتور ماجد في كتابه أنّ التربية تعني كلّ شيء، وأنّ العلم يشمل كلّ شيء، فأنت في عبادة طالما تتعلّم وتبحث في هذا الكون الّذي أمرنا الله بالنّظر والبحث فيه وفي أنفسنا، تماما كما أنّك في عبادة حينما تصلّي أو تصوم.
ويعلّمنا أيضا أنّ السّلبية والاستسلام الّذي يواجه به كثير من المسلمين ما وصل إليه الغرب ليس إلّا دليلا على ضيق الأفق لدينا، فنحن حينما لا نستطيع أن نصل إلى ما وصلوا إليه هم نتفاخر بأنّنا مسلمون وأنّنا على الحقّ ونتفاخر بما فعله آباؤنا، دون أن نحاول نحن فعل شيء، وليس هذا من الإسلام في شيء.
حينما أمرنا الله أن ننظر إلى السّماوات والأرض والحيوانات وإلى أنفسنا فهو أمر لنا بأن نسعى في العلوم كلّها وأن نطوّرها ونواصل اكتشاف ما خلقه الله لنا في هذا الكون، لا أن نقف موقف المتفرّج ونكتفي بالتّعليق على ما يصل إليه الغرب بأنّه حلال أو حرام!
وحينما شرّفنا الله بحمل هذه الرّسالة فلا يعني ذلك أن نكتفي بالجانب الفردي وأن ينجو كلّ بنفسه ونترك الدّنيا وما فيها، فلمن نتركها إن كنّا نحن الخلفاء فيها ونحن من يحمل الرّسالة؟ بل يجب أن نسعى لإصلاح ما يمكن إصلاحه وأن يكون لنا دور في هذا العالم وأن نتفاعل معه وأن نبثّ فيه نور ما معنا من الإسلام.
طريقة قراءة القرآن في فلسفة التربية الإسلامية
من أهمّ ما تعلّمته أيضا من هذا المفكّر هو طريقة قراءة القرآن، فاستعماله للآيات في مختلف فقرات الكتاب تجعلني في كلّ مرّة أندهش كما لو أنّني أقرأ هذه الآية لأوّل مرّة، مع أنّني قد ردّدتها من قبل عدّة مرّات. للأسف لم نعد نقرأ القرآن لنفهمه أو لنستخرج منه مفاهيم تساعد حياتنا وحاضرنا، بل نحن نعيش أزمة تجعلنا نخشى أصلا محاولة فهم القرآن، فقد أصبحنا ننظر إليه على أنّه أمر لا يخصّنا بل مجرّد آيات نتلوها في الصّلاة ونتلوها يوم الجمعة لنكسب بعض الحسنات، لم نعد ننظر للقرآن على أنّه دستور الحياة، وعلى أنّه شريعة كاملة متكاملة يمكن لنا أن نجد الحلول فيها لكلّ نواحي الحياة، إن عرفنا كيف نفهمه وواصلنا البحث لربطة مع ما يدور في الحاضر.
قد ترغب بقراءة: القومية والإسلام… نظرة على تمسّك شعوب المنطقة بالقومية
آراء المفكّرين حول فلسفة التربية
يتحدّث الدّكتور ماجد أيضا عن كيف تمّت صياغة فلسفة التّربية الغربية – وربّما عليّ أن أشرح أنّنا حينما نستخدم مصطلح التّربية فهو يعني منهج التعليم المعتمد في المجتمع ككلّ – وكيف تصادمت آراء المفكّرين والفلاسفة لمحاولة الاتّفاق على فلسفة واحدة.
أمّا عن أهمّ ما اختلف حوله الفلاسفة فهو الهدف من هذه التربية، إن كان يجب أن يكون هدفا قصير المدى أو طويل المدى؟ وهل هو هدف فردي كأن ينجح المرء في حياته أو هدف يخصّ الدّولة كأن يكون فردا فعّالا فيها؟ وهل يجب أن يكون هدفا ساميا كعبادة الإله أم يجب أن يتمّ فصل العلوم الدينية عن بقيّة العلوم؟
ورغم أنّ الأصوات الغالبة قد ذهبت إلى فصل الدّين والاهتمام بالعالم المحسوس فقط، إلّا أنّه قد تواصلت محاولة إصلاح هذه النّظرة لأنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش دون أن يهتمّ بالجانب الرّوحي، فلا يمكنه أن يتوقّف عن التّساؤل عن نشأته وخالقه ومصيره والهدف من حياته، وهي أمور قد جنى الغرب ثمارها لأنّه لم يهتمّ بها في منهجه التّربوي.
فقد ظنّ المفكّرون في الغرب أنّ نهج اتّباع العالم المحسوس والاهتمام بالتّكنولوجيا سيخرج لهم بجنّة على الأرض، لكنّ العكس هو ما حدث، فقد أدّت تلك التّربية إلى انحطاط الإنسان واتّباعه لشهواته، وأصبحت الدّارونية أساس النّظرة إلى الإنسان، فاشتعلت الحروب الّتي أهلكت الكثيرين. وقد أدّت هذه التّربية الخاطئة أيضا إلى بروز إنسان شاذّ لا يتّبع فطرته، وإلى ثقافة استهلاك مجنونة، وإلى تنافس على التّصنيع حتّى فسدت البيئة بسبب التلوّث، وغيرها من السّلبيات الّتي نتجت عن عبادة الإنسان لشهوته.
أزمة فلسفة التربية
والأزمة كلّها أزمة أهداف، وهو ما يسمّيه الدّكتور ماجد بـ المثل الأعلى. فحينما يقوم الإنسان بخدمة مثل أعلى ويتفانى في خدمته فإنّه يرتقي في نفسه ويرتقي بمجتمعه، لكن حينما يخدم شهواته فقط فإنّه ينحطّ. وهذا المثل الأعلى هو الله طبعا.
أمّا أزمة المسلم فرغم أنّه يعرف المثل الأعلى، لكنّه لا يعرف كيف يخدمه في حياته، فمنهج التّربية الّذي يتّبعه لا يخبره كيف يخدم المثل الأعلى، بل لا يخبره حتّى كيف يخدم مجتمعه أو يختار هدفا لحياته. لذلك يشعر المسلم بالسّلبية والعجز من جهة، وبالاغتراب الفكري من جهة أخرى بسبب اختلاط منهجه مع المنهج الغربي الّذي لا يناسبه.
وفيما يخصّ سبب هذه الأزمات والابتعاد عن الدّين فالسّبب يعود إلى أنّه في المجتمعات المسيحية قد تمّ تحريف الدين فصار دينا غير متوافق مع العقل ما أدّى بالنّاس إلى النّفور منه والاكتفاء بالعالم المحسوس، وذلك بسبب أفعال الكنيسة طبعا.
أمّا المجتمعات الإسلامية فرغم أنّ الدّين محفوظ لكنّ الخلل قد أصاب فهم النّاس لهذا الدّين، وهو أيضا ما أدّى إلى النّفور منه والاغتراب عنه، أو إلى الاكتفاء به في خانة العبادة الفردية فقط وعدم محاولة إشراكه في مختلف نواحي الحياة.
وسأختم هذا المقال بما ختم به الدّكتور ماجد كتابه، فتغيير نظم التّربية تحدّ ضخم، لكنّه ليس مستحيلا، وكلّ ما علينا فعله هو القيام بدورنا في تغيير الأنفس، ليقوم الله بقسطه من التّغيير الخارجي.