رغم أنّني درستُ إلى أن حصلتُ على شهادة الدكتوراه من خلال أنظمة التعليم الفاشلة، لكنّني دوما أنصح أيّ شخص أمامي قائلة “إن كان لديك شغف بأيّ شيء ما ويمكنك تحويله لمصدر دخل، فاترك الدراسة”. وكم كنتُ أتمنّى أن أجد من ينصحني هذه النصيحة الذهبية قبلا، وكم كنتُ أتمنّى لو أنّني عثرتُ على شغفي مبكّرا.
أجل فأنا كافرة بأنظمة التعليم. فصحيح أنّني حصلتُ على شهادة الدكتوراه، لكنّني لا أعتبرها دليلا على أيّ علم، بل هي دليل على الاجتهاد فقط. فأنظمة التعليم الفاشلة تجعلك تدرس أشياء لا فائدة لها أصلا. وهذا لا يحصل فقط في بلادنا، بل يحصل حتّى في أكثر الدّول تقدّما. فهناك دوما ذلك الشعور بأنّه قد تمّ خداعك لتدرس 20 عاما أو أكثر لتعمل في النهاية عملا يتطلّب مهارات أقلّ. وهي مهارات ربّما لم تتعلّمها أصلا في سنوات دراستك. ويظلّ السّؤال مطروحا، ما الفائدة المرجوّة من أنظمة التعليم الفاشلة هذه؟
سأتحدّث في هذا المقال عن أساس أنظمة التعليم، وما كان الهدف من وضعها في البداية، لتتحوّل إلى جحيم يسرق منّا الحياة.
أنظمة التعليم الفاشلة جاءت لتجهّزنا للعمل في المصانع.
إذ يتعلّق الأمر بالثورة الصناعية في أوروبا وما جلبته من حاجة للعمّال في المصانع. وبهذا اتخذ التعليم نمطا واضحا جدّا وهو تجهيز الطبقة العاملة من خلال الدّراسة لتكون منضبطة وخاوية الرّأس تفعل ما يُطلب منها فقط. وألّا تتذمّر من ساعات العمل الطويلة أو تشعر بأنّه يتمّ استغلالها. وهو تماما ما تفعله أنظمة التعليم. إذ يتمّ تعليم الطلّاب الانضباط والطاعة للأستاذ وعدم مناقشته، والالتزام بيوم طويل مملّ على مقاعد الدّراسة، وعدم التذمّر من ذلك. فتلك الدّراسة هي لمصلحة الطّالب وليست لاستغلاله.
لكن حينما يتمعّن أحدنا في أنظمة التعليم، فهل هناك مبرّر حقّا أن يدرس الطّالب حوالي 18 عاما أو أكثر لأجل أن يحصل على عمل رتيب يأخذ معظم وقته؟ وهل فعلا يحتاج ذلك العمل لكلّ تلك الأمور الّتي تعلّمها الطّالب؟ أم أنّها كانت فعلا دون فائدة؟
في الحقيقة، جاءت أنظمة التعليم بسنوات طويلة جدّا لهدف واحد فقط، وهو تحويل طاقة الشباب إلى الدّراسة كي لا يتسبّبوا بالفوضى والمشاكل للحكومات. فأن يتمّ تخريج طلّاب في السادسة عشر من عمرهم مثلا يعني أن يجدوا جميعا مصدر رزق. وإذا ما كان ذلك غير ممكن، فسيتسبّب الشباب بالمشاكل لأنّهم يملكون طاقة كبيرة عليهم تفريغها في شيء ما. ولهذا تمّ تمديد سنوات الدّراسة لكي يتخرّج الشاب في عمر يشعر فيه بأنّه يسابق الزمن، ولهذا يرضى بأيّ عمل يحصل عليه ليستطيع تكوين عائلة والعيش حياة يرضاها المجتمع.
ويتذمّر من أنظمة التعليم هذه جميع الطلّاب حول العالم. إذ يشعرون بأنّ سنوات الدّراسة القاسية تلك لا فائدة لها. وأنّهم حينما يدخلون عالم العمل، يحتاجون لمهارات محدّدة فقط. بينما يذهب كلّ ما تعلّموه خلال تلك السنوات مهبّ الرّياح بعد خوض الامتحانات. لكن لا سبيل لهم من الخروج من هذه الدوّامة. فسوق العمل يتطلّب الشهادة بغضّ النظر عن المهارات الّتي يملكها طالب العمل. ولهذا لا يمكن لأحد أن يفلت من قفص التعليم الّذي يسرق حياة الشباب منهم، ليكمل العمل لاحقا هذه المهمّة.
هل هناك طريقة للخروج من دوّامة أنظمة التعليم الفاشلة؟
في الحقيقة، يتخبّط التعليم منذ بدايته في دوّامات كثيرة، ويمكنكم قراءة مراجعاتي لكتب الدكتور ماجد الكيلاني ليكون واضحا هذا التخبّط. فقد بيّن الدكتور ماجد، المتخصّص في علم التربية والتعليم، بأنّ أنظمة التعليم الفاشلة هذه لا تعاني فقط من سنوات دراسة طويلة، وتجهيز لسوق العمل دون مراعاة لحياة الإنسان، بل إنّ مناهج التعليم نفسها سيّئة لأنّها تهتمّ بالجانب المادّي فقط، وتنسى الجانب الروحي للإنسان. ولهذا لا يستطيع التعليم أن يجعل الإنسان سعيدا، بل يمنحه طريقا نحو السعادة المادية فقط. وهي سعادة لا تجيب على أسئلة الإنسان بشأن سبب وجوده في الأرض ومهمّته فيها.
قد ترغب بقراءة: قراءة في كتاب فلسلفة التربية الإسلامية لـ ماجد الكيلاني
وهناك فعلا محاولات كثيرة لعلماء التربية لإصلاح أنظمة التعليم. لكنّها تظلّ محاولات نظرية فقط. ويعود ذلك إلى سببين. أوّلا لا يستطيع هؤلاء الخبراء أنفسهم الاتفاق على ما يجب أن يمنحه التعليم للمتعلّم من أهداف عدا الأهداف المادية كالحصول على الوظيفة. وثانيا لن تسمح الأنظمة الرّأسمالية بتغيير أنظمة التعليم وجعل النّاس يتمرّدون على نظام العمل. فالمصانع والشركات تحتاج إلى موظّفين منضبطين لا يشكّون بأنّهم يقومون بالعمل الصّواب. وإذا ما تغيّر نظام التعليم ليخبرهم بأنّ المادّية لن تجلب لهم حياة سعيدة، فسيتمرّد الإنسان على نظام العمل ويبدأ بالبحث عن طرق جديدة للعيش.
ولهذا تماما أعتقد بأنّ تغيّر العالم الآن هو أمر مهمّ جدّا. فقد زاد رواج الأعمال الحرّة مؤخّرا وأصبح النّاس يميلون إليها أكثر من العمل الدائم. وخاصّة حينما جلبت الحواسيب والأنترنت الكثير من الأعمال الحرّة الّتي استطاع الكثيرون جعلها مصدرا وحيدا للدّخل. والمميّز في العمل الحرّ هو أنّه لا يحتاج دوما للشهادة. فصاحب العمل سيختار من ينجز له العمل بأفضل طريقة، ولن تهمّه الشهادة أمام الإنجاز الفعلي. وأعتقد بأنّه تغيّر مهمّ في سوق العمل، وقد يقود للخروج من دوّامة العمل الرّتيب الّذي يسرق حياة الإنسان منه من خلال سنوات الدراسة الطويلة، ثمّ سنوات العمل المملّة.
قد ترغب بقراءة: العمل الحر عبر الأنترنت… شرح مفصّل لخطوات دخوله
خلاصة القول
لأجل كلّ ما ذكرته في هذا المقال، أنا أنصح أيّ شخص يحمل شغفا بشيء ما في الحياة أن يحاول تحويل شغفه لمصدر رزق، وبهذا ينقذ نفسه من سنوات دراسة طويلة دون فائدة، ويستطيع الاستمتاع بحياته وعيشها كما يحلو له دون الخوف من فقدان مصدر الدخل بسبب التخلّي عن الدراسة.
فالدّراسة لا تجلب أيّ علم، بل هي مجرّد حفظ لمعلومات يتمّ نسيانها فور انتهاء الامتحانات. ولهذا من يدرس معتقدا بأنّه يحصل على العلم لا يخدع إلّا نفسه. فهناك الكثير من الطّرق للحصول على العلم الّذي يرغب به أيّ شخص. ومن يدرس للحصول على الشهادة والعمل، فليس عليه سوى أن ينتبه إلى إيجاد أهداف أخرى في حياته يعيشها إلى جانب تلك الدراسة. وبهذا لن يشعر بأنّ حياته قد ضاعت منه بعد أن يتخرّج وقد ضاع كلّ شبابه دون فائدة.
قد ترغب بقراءة: إليكم قائمتي بأهمّ 7 كتب لفهم العالم وما يجري من حولنا